في تسعينات القرن الماضي حيث كانت الأوضاع الاقتصادية في السودان في مهب الريح وكانت نسب التضخم العالية تأكل كل ربح يمكن أن يصيبه العمل التجاري .. في تلك السنوات قامت زوجة صديق لي بتجربة اقتصادية عجيبة. هي لم تدرس الاقتصاد، بل في الواقع لم تتلق أي دراسة نظامية، وليست لها أي تجربة عملية في التجارة، ولكنها كانت تذهب كل صباح إلى السوق القريب من منزلها وتراقب البائعين والشارين وتشاهد كيف يبيعون ويشترون ويقايضون ويغشون ويستدينون ولا يسددون ديونهم. تجربة زوجة صديقي قامت على تلك الملاحظات. وهكذا عندما دخلت ميدان التجارة لم تدخلها عن علم نظري ولا عن تجربة عملية ولكنها قامت على المعرفة الفطرية والملاحظات التي سجلتها في مخيلتها في زياراتها الصباحية للسوق. كنت يومها مغتربا، بمعنى أنه لم يكن عندي مشكلة في السيولة، فأهديتها ثلاثة آلاف جنيه لتبدأ بها تجارتها. يومها كان هذا المبلغ مبلغا معتبرا، فقررت أن تشتري بها دجاجا. كان عندها ست دجاجات في البيت على وشك أن تبدأ مرحلة إنتاج البيض. فاشترت ثمانية عشر دجاجة أضيفت لها. للأسف الشديد كانت أحدى الدجاجات الوافدات (معطوبة). فانتقلت الإصابة لباقي الدجاج فانتقل الجميع ما عدا واحدة إلى الدار الآخرة. في اللحظة الأخيرة، وقد دنت الدجاجة الأخيرة من المغادرة، نصحتها إحدى جاراتها العليمات بمشاكل تربية الدجاج بأن تطحن حبة بنسلين أو تذيبها في الماء وتسقيها الدجاجة. وبفعل هذه المساعدة نجت الدجاجة الأخيرة من سيف الفناء. بدأت صاحبتنا تدرس مشاكل أمراض الدجاج وكيفية معالجتها، طبعا كانت الدراسة مبسطة أهم أركانها أن يكون رد الفعل سريعا إذا ظهرت أعراض المرض على أي دجاجة. وانصب كل اهتمام التاجرة المبتدئة على هذه الدجاجة. عندما عدت للسودان بعد عام وجدت أن تلك الدجاجة الناجية أنتجت سبعة وثلاثين كتكوتا على ثلاث دفعات عمرية. تلك التجربة الصغيرة علمت صاحبتنا قواعد ذهبية لمن يريد أن يعمل في تربية الدجاج بقصد التجارة : من هذه القواعد أن تبدأ تعلم ما يحيط بتربية الدجاج، كمعرفة أنواع أمراضه وعلاجاتها، واختيار الغذاء المناسب له، وما إليه. ومنها، أن تكون عينيها مركزتين طوال ساعات اليوم الأربعة وعشرين على دجاجها والتقاط أي ملاحظة أو تغيير يلم به، ومنها، أن تتعلم شيئا ولو مبسطا عن اقتصاديات تربية الدجاج، مثل كيفية التعامل مع البنوك لنيل القروض الصغيرة بقصد الاستثمار، وكيف يمكنها سداد القرض عندما يحين أوان سداده، وكيفية تسويق إنتاجها .. الخ. وهكذا انطلقت صاحبتنا في تربية الدجاج وجمع البيض وبيعه، وكان نجاحها هو السبب في جعل مركب البيت يستمر وسط تلاطم أمواج حياة اقتصادية قاحلة. هذه مقدمة للتجربة المثيرة لصاحبتنا التاجرة المبتدئة. (نواصل)