(كان المشهد حقاً كما لو كانت نهاية العالم..الناس ذهبوا..لم أر مدنيين، الأكواخ المحروقة والمنهوبة تمتد على مرمى البصر في بلدة أبيي الخالية الآن من المدنيين..ولقد رأيت دماراً ناجماً عن تطبيق سياسة الأرض المحروقة).. هكذا كان المبعوث الأمريكي الخاص للسودان ريتشارد وليامسون يتحدث لوسائل الإعلام في زيارته الأخيرة للسودان أواخر مايو الماضي، حينما تفجرت قضية أبيي فجأة وبشكل دموي تماماً بالتزامن مع زيارة المبعوث الخاص للبلاد..ولم يكن ذلك نهاية للعالم فحسب ولكنه كان سببا كافياً من وجهة نظر وليامسون على الأقل لإعلان نهاية مباحثاته مع الحكومة السودانية والقول إنه ليس على استعداد ليكون شاهداً على اتفاقات لن ينفذها أحد. ......................................................................................................................................................... وعقب رحيله بوقت قليل أسفرت الجهود التي بذلها المؤتمر الوطني والحركة الشعبية عن توقيع ما بات يعرف بخارطة طريق أبيي التي قادت الملف إلى أضابير المحكمة الدائمة للتحكيم بلاهاي، وفي ذات اليوم الذي وصل فيه الرجل إلى الخرطوم كان الرئيس قد أصدر قراراً بتعيين رئيس لإدارة المنطقة ونائب له، في خطوة تشبه سد الذرائع أمام الرجل الذي تم تعيينه مبعوثاً خاصاً للسودان في السابع من يناير الماضي خلفاً لناتسيوس. إلا أن العديد من القضايا أو(الذرائع) كما يصفها البعض لا تزال في جعبة وليامسون الذي هبطت طائرته في الخرطوم مساء الجمعة الماضية، ووفق تصريح أوردته «سونا» للسفير على الصادق الناطق الرسمي باسم الخارجية، فإن المباحثات ستتناول القضايا العالقة بين الجانبين وتطورات الوضع في أبيي بعد التسوية وسير تنفيذ إتفاقية السلام الشامل. ومن بين تلك القضايا العالقة فإن الموضوع الذي سيحظى بالإهتمام لا شك هو التطورات الأخيرة في قضية إقليم دارفور التي بلغت حداً خطيراً بإعلان المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية توجيه الإتهام رسمياً للرئيس البشير بارتكاب جرائم في الإقليم، أي أن قضية المحكمة إلى جانب القضية الرئيسية المتمثلة في حل أزمة دارفور تبرزان كموضوعين ساخنين يتوقع أن تتركز حولهما النقاشات بين الطرفين. ويتسم موقف الولاياتالمتحدة إزاء محكمة الجنايات بالغموض الناتج عن وضعيتها كبلد غير موقع على نظام روما الذي أنشأ المحكمة، وعن رفضها المثير للجدل لمحاكمة أي مواطن أمريكي أمام المحكمة، وذلك ما يضعها في مأزق أخلاقي خصوصاً في الداخل الأمريكي إذا ما أعلنت صراحة تأييدها لمحاكمة رئيس دولة أخرى بعد أن رفضت هي مجرد تسليم أي أمريكي ولو كان مواطناً عادياً، ويمضي بعض المراقبين إلى ترجيح أن تكون الولاياتالمتحدة قد أوعزت إلى فرنسا وبريطانيا بمتابعة العمل على أمر المحكمة فيما يشبه لعبة تبادل الأدوار خصوصاً وأن الدولتين كانتا من قدمتا القرار الشهير الذي أحال قضية دارفور إلى مجلس الأمن. ويرى استاذ العلوم السياسية د.آدم محمد أحمد أن مهمة وليامسون- القانوني السابق والمحرر التنفيذي لدورية فرجينيا للقانون الدولي- ربما تتعلق بإجراء مساومات وتلمس ما يمكن أن تقدمه الحكومة السودانية من تنازلات، مشيراً إلى أن الولاياتالمتحدة ربما تبحث عن تسليم بعض المتهمين-وهو الأمر الذي سبق أن طرحته المبادرة الفرنسية البريطانية- ويمضي د.آدم لربط موضوع المطالبة بمثول البشير أمام المحكمة بموضوع موافقة الحكومة على نشر القوات الدولية التايلاندية والنيبالية في دارفور، إلى جانب الإسراع بالتفاوض مع الحركات المسلحة ويشير إلى أن أمريكا تعتقد أن الوقت بات ملائماً لها لتحصل على ما تريد. ومثلما فعل في مايو الماضي، فإن المبعوث الخاص سيمضي في زيارته التي تستغرق أسبوعاً هذه المرة إلى كل من دارفور وجوبا وأبيي في تكرار لذات الجولات التي قام بها خلال زيارته الأخيرة، إلا أن وليامسون هذه المرة كان قد توقف قبل وصوله إلى الخرطوم في أديس أبابا وإنجمينا التي سلم فيها رسالة خطية لديبي من الرئيس بوش طالبه فيها بالتوقف عن دعم حركات دارفور المسلحة ومضاعفة جهوده للوصول إلى سلام في الإقليم عبر المفاوضات. ويقول العميد السابق بجهاز الأمن حسن بيومي أن نفس هذه الرسالة وصلت إلى السودان وأن القضية برمتها تمضي الآن نحو إيجاد حل تفاوضي بين الأطراف الداخلية والخارجية، لكنه يتساءل عما يمكن أن تشهده المفاوضات وعن مدى استعداد السودان لتقديم تنازلات للوصول إلى حلول خصوصاً فيما يتعلق بتشاد التي أشارت آخر الأنباء الواردة منها قبل يومين إلى استعدادات كبرى للمعارضة التشادية بغرض الدخول إلى أنجمينا، ويخلص إلى أن الوصول إلى الحل لن يكون أمراً سهلاً لكنه يعتبر أن هناك حراكاً في الاتجاه الصحيح ويضيف (المشاكل يجب أن تحل دفعة واحدة وليس بصورة جزئية، وأخشى أن تكون كل المواقف الأمريكية تهدف إلى ممارسة ضغوطات، ما يعني أن طاقية أوكامبو ستظل معلقة فوق رأس السودان لتحل القضايا من تحتها). وكان حديث كثير قد دار منذ مباحثات روما في أبريل الماضي عن بروز إتجاه قوي للرئيس بوش لتحقيق شيء في السودان قبل أن يرحل عن البيت الأبيض، وبرزت جهود لتطبيع العلاقات الثنائية بين السودان والولاياتالمتحدة من جانب، ولتجميع الحركات الدارفورية المسلحة تمهيداً لبدء مفاوضات تهدف لحل الأزمة على جانب آخر، إلا أن تحقيق كل ذلك يتطلب بعض التنازلات من جانب الحكومة على ما يبدو، وهي التنازلات التي يبحث عنها وليامسون هذه المرة في الخرطوم وهو يعتمر طاقية أوكامبو..