بدت لنا جوبا أمس الأول وقد لف الشمال خصرها غير أنها تتأبى على الإمساك وتمد ذراعها نحو مدن شرق أفريقيا، كحسناء يعاكسها فتيان.. كانت ملاحظتي وقد سنحت لي فرصة المشاركة في احتفالات الجنوب بعيد استقلاله الأول أن جوبا في اتجاهها - إذا فقدت التواصل مع السودان - لتأخذ ملامح مدن شرق أفريقيا من واقع أشياء كثيرة تراءت لي ونحن في الطريق من المطار الى ساحة الاحتفال بعيد الاستقلال: أكواخ الصفيح.. سحنة الناس في الشوارع ليست خالصة السواد، فالتدفق البشري نحو العاصمة الجديدة حمل ألواناً متعددة من أصحاب البشرة البيضاء وهم أخلاط من أوروبيين يصعب التمييز بينهم، كما حمل ذلك الدفق من الناس أيضاً من يبتغون الرزق الحلال، وآخرون يبتغون الرزق دون الدخول في تفاصيله.. من هؤلاء وأولئك يوغنديون وكينيون وصوماليون وبنغاليون وباكستانيون.. لكن هذه الأخلاط البشرية لم تكن تخفي سكان جوبا الأصليين. توجهت الى مطار الخرطوم دون أن أحمل جواز سفر وكذلك كان الإخوة في التلفزيون.. عاتبنا وزير الدولة بالخارجية ممثل رئيس الجمهورية في المناسبة السيد صلاح ونسي على عدم إحضار الجوازات.. لم يخطرنا موظف المراسم بضرورة إحضار الجوازات ولم نسأله عن ذلك، ربما كان في خلد كل منا أن السودان ما زال موحداً.. بسرعة تداركنا الموقف وأحضرنا الجوازات، وكان هذا شاهداً مادياً غليظاً على غربة المكان أو غربتنا عنه. من العبث النظر إلى جوبا من زاوية التاريخ وحده.. هي الآن ليست كما كانت قبل التاسع من يوليو العام الماضي أو قبل توقيع نيفاشا.. لكن من الحكمة استدعاء التاريخ للنظر فيما فعل به الحاضر.. غاب السودانيون عن الجنوب وبقيت كثير من ذكرياتهم، وغير القليل من ثقافتهم وأنماط حياتهم وتلك اللغة الهجين كبذرة مدفونة في أرض الجنوب إما أن يسقيها التواصل الشعبي فينميها ويثمرها، وإما أن تجتثها غوائل السياسة، ومشاحنات السياسيين حول النفط والتجارة، فيتلاشى عربي جوبا كما تلاشى أهله. ليس عريف الحفل وحده من كان يتحدث باللغة العربية، أحد المطربين من جنود الجيش الشعبي قدّم أغنية حماسية تجاوب معها الحضور بموسيقاها الصاخبة ولم أحفظ من أغنيته إلا مقطعها الذي يقول (الله الوطن.. يا وطن يا غالي) إن لم تخني الذاكرة.. في خضم الاحتفال وازدحام الناس وزحمة المشاعر، نبه عريف الحفل الى أن هناك طفلة ضاعت من أبويها، الطفلة اسمها (روضة) واسم والدتها (تابيتا) أما والدها فيحمل اسم (عادل).. إنها أسماء عادية يمكن أن تسمعها كثيراً، ولكنها على أي حال لفتت نظري وسط جلال المناسبة والمكان.. السوق مثل ميدان الاحتفال خليط من هذا وذاك، بعض اللافتات في أسواق جوبا ما زالت مكتوبة باللغة العربية، وكذلك تفعل الإذاعة المحلية والتلفزيون. كان الجنوبيون في الشوارع نشاوى بذكرى استقلالهم الأول، ويؤرخ الجنوبيون لاحتلالهم بالعام 1821 كما ذكر عريف الحفل، وهو العام الذي احتل فيه الأتراك السودان، وإذا صدقت مقولة العريف فيبدو أن الاحتلال التركي ولود، فمن رحمه انعتق السودان من مصر وبريطانيا، ومن السودان خرج الجنوب، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ ما إذا كان الجنوب سيلد هو الآخر أم أن الآية ستصدق على السودان مرةً ثانيةً. قابلنا المسؤولون الجنوبيون بترحاب وحفاوة، لم يعكر صفوها أي تصرف فردي، بل إن الجمهور الذي تابع خطاب الوزير ونسي قاطع الخطاب بتصفيق وترحاب.. بابتسامته التي قلما تفارقه رحب بنا الدكتور رياك مشار عند أسفل المنصة الرئيسية، وعند أسفلها أيضاً رأيت تشاوراً خافتا بين دينق ألور ونيال دينق.. أما باقان أموم فقد كان أبرز الغائبين، على الأقل أبرز الغائبين عن عيني، ويبدو أنه كان غائباً بالفعل فمثل باقان لا تخطئه الأذن إذا أخطأته العين. الخطاب الرئيسي للرئيس سلفا كان طيباً تجاه السودان على خلاف خطابه الشهير بعد نتيجة الاستفتاء في ذات الميدان.. سلفا أكد أمام الحضور إمكانية تجاوز الخلافات مع السودان، وشدد على أنه لا يضمر سوءاً للشعب السوداني.. عكسه تماماً كان الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني الذي لم يغادر بعد محطة الحديث عن السودان والعبودية واسترقاق الجنوبيين.. وكان اللافت أن حديث موسيفيني لم يجد حماساً من الجمهور.. ربما لم يرق لهم أو ربما لم يفهم غالبيته لأنه تحدث بالإنجليزية في عدم وجود مترجم. مشاركة دول الجوار في المناسبة كانت عادية ولم يحضر من الرؤساء إلا موسيفيني، أما الباقون فقد انتدبوا من يمثلهم.. أما اللافت حقاً فهو أن اعلام الدول تراصت أمام ساحة العرض بكثافة يتوسطها العلم الإسرائيلي المرفوع قبالة المنصة تماماً. مما جاء في خطاب ونسي قوله: (إننا واستناداً للعلاقات التاريخية بين بلدينا نتطلع إلى تقديم أنموذج يُحتذى في علاقات حُسن الجوار والتعايش السلمي على المستويين الأفريقي والعالمي.. ودعونا ننتهز هذه السانحة لتحية أبطال وصانعي السلام وعلى رأسهم الراحل د. جون قرنق دي مبيور وفخامة الرئيس عمر البشير وفخامة الرئيس سلفا كير ميارديت وسعادة الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية.. كما نزجي التحية للوسطاء الإقليميين والدوليين الذين أسهموا في تحقيق هذا الإنجاز التاريخي). ونسي ختم بالقول: (نؤكد ما سبق أن تعهَّد به فخامة الرئيس عمر البشير العام الماضي من على هذه المنصة من التزام راسخ للسودان بإقامة علاقات تعاون إيجابي مع جنوب السودان يكون أساسها التكافؤ وحُسن الجوار واحترام السيادة الإقليمية لدولتينا، متمنين لشعب جنوب السودان الشقيق المزيد من التقدم والرفاهية والازدهار). توجه وفد السودان برئاسة ونسي بعد انتهاء الحفل إلى مقر السفارة، وسرعان ما بعث الفريق سلفا كير بوزير من حكومته موجهاً الدعوة إلى ونسي لتناول طعام الغداء، اعقبه لقاءٌ قصير بين الاثنين بطلب من سلفا كير .. وترددت أنباء عن رسالة شفهية من سلفا إلى البشير، لكن الوزير ونسي تحفظ في حديث ل(الرأي العام) عن الخوض عما دار في اللقاء.