لما خلق الله تعالى الكون وأقرَّ خلافة الإنسان في الأرض، اختبر مدى اِيمانه به تعالى باتباع رسالاته ورسله، وتقفي النهج الحياتي الذي اختطه له سبحانه ( وإذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ في الأرضِ خليِفَةً قالوا أتَجعَلُ فيها من يُفسِدُ فيهَا ويَسفِكُ الدمآءَ ونحنُ نُسَبِحُ بحمدِكَ ونُقَدَِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعلَمُ مَالا تَعلَمُونَ)..الآية.. وفيما يزوغ البعض عن الأمور الإلهية والمناهج الربانية ( فلمَّا زَاغُواْ أزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُم واللهُ لا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ)..الآية. إلا هناك الكثير من البشر يتبعون هذا النهج ويريدونه واقعاً في حياتهم، وحياتهم هذا تشمل كل المناحي ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).الآية. إلاَّ أنَّ تباعد الناس عن زمن الرسالة، وتقادم السنين بهم خلق جفاء بينهم ومنهج الرب جل وعلا حتى استحدث بعض الناس نظما وضعية اجتماعية وسياسية واقتصادية لا تلتزم منهج الرب عزوجل على كل الأديان.. الغرب أخذ وقتاً طويلاً للفصل بين ديانته المحرفة وحياته الدنيوية، واتخاذ العلمانية منهجاً لحياته على كافة مناحيها.. وعوضاً عن إصلاح دينه والبحث في تجديده ورده على ما كان عليه من النقاء والحق والعدل، أخذ في البحث عن بديل عنه، وهنا ظهرت العلمانية كمنهج حياتي للغرب، وبعد دهر من انتهاجها حاول الغرب نقل ديانته الجديدة للشرق أثناء استرقاقه دهوراً طويلة.. العلمانية في أبسط صورها هي فصل الحياة عن الدين كلية، وانبتات الإنسان عن ربِّه، مع أنَّ غاية الخلق هي العبادة وتوحيد ربِّ العالمين.. قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) الآية، ولا تتصور حياة الفرد دون إله يتألهه أو رب يتعبده، ولا أعرف لماذا فرَّق الناس بين الإلحاد الشيوعي والإلحاد العلماني، وهما في المحصلة سواء، والتي تفضي إلى تنحية الدين من التأثير الكلي أو الجزئي في الحياة. من الصحيح أنَّ العلمانيين يتخفون وراء لافتات بارقة وشعارات أخاذة كالديمقراطية والحرية وحقوق الانسان إلا أنه سريعاً ما ينكشف تسلطهم على الناس باسم الحرية، وحرية التعبير، وأنا هنا أتحدث على وجه الخصوص عن الليبراليين المتغربين في الشرق ? والليبرالية لفظة تخفيف لمصطلح العلمانية هنا لمناهضة الفطرة المسلمة لها ? والذين يغلب عليهم اتباع الهوى ومغالبة الدين كما قال العلامة ابن القيّم رحمه الله عن عبدة الهوى والمبتدعة أنهم أناس أعيتهم السنن فابتدعوا في دين الله تعالى.. والمتعلق ببدعة كداء الكَلَب الذي يتجارى بصاحبه .. والمناداة بالدولة المدنية أو دولة المواطنة هي آخر مبتدعات العلمانية وما يُسمى بالعالم المتقدم ووكلائهم سواء في السودان أو دول الثورات العربية أو حتى الاتجاهات الليبرالية في دول الخليج والتي غالباً ما تُسمى بالاصلاحية أو الاصلاحيين، وغالب الذين ينادون بالحريات في المنطقة العربية للأسف هم من الليبراليين والعلمانيين، وكأن القوى الإسلامية عاجزة عن المناداة بالحرية، والتأصيل لها معرفياً في الإسلام، وهي دائماً في خانة الاتهام والمداراة والدفاع عن طروحاتها الفكرية التي تنادي بالإسلام الحل .. وهنا عجز فارق عن افتراع تفاصيل برامج سياسية واقتصادية وإقرار نظم اجتماعية جديدة وفق نظرة شاملة للإسلام.. والعجز هنا عجز العقل السياسي الذي ينادي باستئناف الاسلام في حركة الحياة. إما أنه لم يستوعب الاسلام بشكل كامل أو أنه لم يستطع الموافقة بين الأصل والعصر! والعلمانيون والليبراليون ظلوا يتحكمون في العالم الإسلامي لأكثر من مائة عام باسم الاتوركية والناصرية والبعثية العبثية والقومية العربية واليسارية منذ بداية الاسترقاق الأوربي لبلادنا منذ مايزيد على القرن، ثم جاءت قوى الاستقلال المدنية التي ورثت (المستحميرين) ثم فترات الشمولية العسكرية، وكلها تدعي التقدمية والحداثة، في الوقت الذي كانت تصلي الناس لظى التسلطية التي سادت القرون الوسطى، كلها تتفق على منابذة الاسلام وأهله، وفشلت في تقديم برامج وظيفية تدل على مدنيتها أو تقدميتها، أو تسعى لرفع شعوبها من حالة الانخفاض الحضاري بل رهنت نفسها إما للشرق وإما للغرب.. ولم يعودوا بنا إلا للقهقرى والتخلف، وزيادة نسب الأمية الدينية مجددا.. العلمانيون ما يزالون يحلمون بالتسلط على رقاب الناس لمدة مائة سنة أخرى، ويراهنون على الغرب لتسليطهم على رقاب الناس مرة أخرى لأن البديل برأيهم فزاعة الإسلاميين .. التطرف والتكفير.. ودولة الخلافة ورجوع أحكام أهل الذمة والتي شوهت كمضامين إسلامية بوسائط الإعلام العلماني أو الليبرالي.. ويستخدمون وسائل عديدة لتحقيق مآربهم بمحاولة تقويض أركان الدولة وإثارة قضايا الأقليات باعتبار حقوق الإنسان ونسيان وتهميش الأغلبيات وتحقير مطالبها المشروعة وإهمالها، هذا عدا حقوق الأقليات المسلمة في دولها والتي يفرض عليها ما يُسمى بالاندماج المجتمعي.. مع أنَّ عدالة الإسلام هي التي وصل لها الغرب بعد عنادة ومجافاة وضمنها بعض رؤاه الحضارية. مصطلح الدولة المدنية الذي بات يطرح اليوم كمصطلح موارب للعلمانية.. وموهم حتى لبعض الإسلاميين وفق شروحات معماة بشكل أشبه بدس السم في الدسم بما يخلط المفاهيم عند عامة الناس، ويجعلهم يقبلون بما يخالف دينهم ومحاولة تحييد دينهم نفسه باعتباره ممارسة تعبدية شخصية تخص كل فرد على حدة، وبما لا يجعل للدين ولاية على الحياة العامة.. ويخوفون من أحكام الإسلام التي قال عنها المولى جل وعلا: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ). الآية، ويحاولون التفريق بين المسلمين والإسلاميين والتفريق بينهم والإسلام، بل يشحذون المصطلحات للتنفير من الملتزمين بالاسلام شريعة وتديناً وتعبداً وينادون به في حياة المسلمين بقولهم (الإسلاموية) .. أو إطلاق لفظة (المتأسلمين) على الإسلاميين. أو نعت الجماعات السياسية الإسلامية (الإسلام السياسي). بالرغم من أنَّ الإسلام كمنظومة حياتية يضمن العدالة للجميع مسلمهم وكافرهم ذميهم ومعاهدهم وحتى محاربهم .. ولا ندري على أي أسس يرفض (المتغربين والمتأسلمين) حقيقة.. الإسلام كدين قيمي يحكم وينظم حياة الناس.. ولكن نحن نؤمن بأنَّ الإسلام بدأ غريباً كما قال رسول البشرية النبي الخاتم عليه أفضل الصلوات والتسليمات ، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء.