فيما لم تفق الخرطوم بعد من تراكم الأحزان بسبب الموت الذي يتربص بخطواتها تارة على سفح جبل، وتارة أخرى عبر قرارات أممية، أعلنت سلطة الطيران المدني تحضيراتهم لإرسال الصندوق الأسود لطائرة الأنتينوف 26 صاحبة فاجعة تلودي إلى معمل في روسيا ليتم فحصه وتحديد سبب تحطم الطائرة . وقال المتحدث باسم الهيئة عبد الحافظ عبد الرحيم في تصريحات صحفية أمس الأول، إنهم يحضرون لإرسال الصندوق الأسود لأحد معامل شركة الأنتينوف في موسكو، وأضاف أن لجنة التحقيق السودانية تنسق مع المحققين الروس، حيث يحتوي الصندوق الأسود على معلومات عن الرحلة وتسجيل للمحادثات التي قام بها قائد الطائرة الذي أفادت الأنباء بأنه روسي. وما أثار إستغراب البعض أن (التحقيق) جاء لأول مرة منذ وقوع الحادثة عبر شركة ألفا أيرلاينز السودانية للطيران (مالكة الطائرة المنكوبة)، وقالت أنها بصدد فتحه -أى التحقيق- لتحديد أسباب تحطم طائرة الأنتونوف أثناء هبوطها في تلودي الذي أدى إلى مقتل (32 ) راكبا، قبل أن يضيف اداريو الشركة بأن فريقا من سلطة الطيران المدني بدأ تحقيقا ربما يستغرق شهرين على الأقل، الأمر الذى فسره الكثيرون بالمتكرر والطبيعي لقتل موضوع التحقيق وعدم خروج نتائجه للعلن، في ظل ما تتمتع به الخرطوم من ذاكرة سمكية، ليضيف نقل الصندوق الاسود من الخرطوم الى موسكو مزيداً من زيت الشكوك على نار آلام الدم المهدور تحت وطأة التواطؤ الروسي الذى ربما يضن بالحقائق لصالح استمرار التعامل التجارى بين الخرطوموموسكو فى سوق طائرات الاخيرة المستعملة وربما القاء اللوم على الطيار ضمن سلسلة الأخطاء البشرية التى دوماً ما تختم التقارير الرسمية لإبراء ذمة المؤسسات وإنقاذ سمعتها..خبراء فى الطيران المدنى لم يستنكروا خطوة نقل الصندوق الاسود، باعتبار أن الطائرة طائرة روسية والتعامل مع صندوقها فى الخرطوم لا يتم الا فى عواصم تمتلك الخبرة الفنية لذلك، وربما غابت هذه الخبرة عن الخرطوم فكان الاولى التوجه لموسكو صانعة الطائرة ، بإعتبارها المؤهلة للتعامل مع بضائعها.سياسياً، ينظر للأمر فى شوارع الخرطوم بغير اكتراث فى السيناريو يبدو معاداً ومتكرراً للدرجة التى أصاب فيها الكثيرون بالبرود تجاهه، بالرغم من ظلال علامات الاستفهام فى سياق فضول أسر الضحايا لمعرفة حقيقة ما حدث، وأخر الاتصالات التى أجرتها الطائرة والتأكد ما اذا كان وقوع الحادث قدراً مسطراً من السماء.حادثة تلودى تجئ بعد قرابة(90) عاماً من أول حادثة فى تاريخ الطيران المدنى بمقتل سبعة أشخاص فى ابريل عام 1922م كانوا على متن طائرة تابعة لشركة فرنسية فوق مدينة بيكاردي بفرنسا، كما تجئ بعد عامين على وفاة مخترع الصندوق الاسود، لتكون تلودى اكمالاً لسلسلة محاصرة بلون الدم والفجيعة لحوادث الطيران السودانى المتعددة، التى تزايدت منذ مجئ الانقاذ ، فبرزت حادثة سقوط طائرة الزبير محمد صالح النائب الأول الاسبق للرئيس في العام 1998م، ثم تحطم طائرة ابراهيم شمس الدين مساعد وزير الدفاع نتيجة عاصفة رملية، أودت بحياته و(14) ضابطاً بعدارييل، عام 2002م، تبعها حادثة مقتل (115) شخصاً في تحطم طائرة مدنية عقب إقلاعها بوقت قليل من مطار بورتسودان، ولم ينج من الحادث سوى طفل صغير عام 2003م، لتتوالى الحوادث معلنة فى عام 2005م وفاة النائب الاول لرئيس الجمهورية جون قرنق برغم أن الطائرة غير سودانية، ويتواصل مسلسل السقوط لطائرة كانت تقل وزير الزراعة أودت بحياة اثنين، بينما نجا الوزير وآخرون بأعجوبة، وفى سياق رحلة المفجع تلك، كانت مفردة (الصندوق الاسود) حاضرة على استحياء، يظللها الغموض ربما لأنها ضمن الأجهزة الفنية التى تهم المتخصصين، وغاب كذلك ما تدلي به من إفادة فى سياق رحلة الموت المعلن.فى الأوساط المتخصصة يعرف الصندوق الأسود بأنه مسجل بيانات الرحلات الجوية للمساعدة في التحقيق في حوادث الطائرات، اخترعه الاسترالى ديفيد وارن ?توفي العام قبل الماضى عن عمر يتجاوز 85عاماً- مدفوعاً بمقتل والده فى حادثة طائرة أيضاً عام 1934م، وطبقاً للموسوعة الحرة، قام وارن بتصميم وصنع أول جهاز في العالم لتسجيل بيانات الرحلات الجوية في 1956 والذي اصبح معروفا باسم «الصندوق الاسود» لكن الأمر استغرق خمس سنوات لإدراك قيمة الاختراع واستخدامه العملي رسمياً، ملقياً الضوء لرجالات التحقيق فى كشف الغموض الذى يكتنف حوادث الطائرات مجهولة السبب.ويعد اعتبار لون الصندوق أسود من أكبر الأخطاء الشائعة، ففى الغالب يكون لونه أصفر او برتقاليا مائلا للحمرة، كما أن من أبرز الأخطاء الشائعة وجود صندوق واحد فيما تقطع الموسوعة الالكترونية بوجود صندوقين فى كل طائرة يقعان في مؤخرة الطائرة يسجلان ما يحدث للطائرة طوال فترة سفرها، سواء كانت بيانات رقمية عن وقت الرحلة وسرعتها واتجاهها ويختص بها الصندوق الأول أما الثانى فيعمل على تسجيل الأصوات أياً كانت، وكلا الصندوقين معدان بحيث يمكن ايجادهما وان سقطا فى المياه، ويحفظ الصندوقان داخل قوالب متينة مصنوعة من مواد قوية، تحيطها مادة عازلة لتتحمل صدمات تبلغ قوتها أضعاف قوة الجاذبية الأرضية، ولتتحمل حرارة تفوق 1000 درجة مئوية وضغطا قويا يعادل ضغط المياه على عمق 20000 قدم تحت البحر. وتلف قطع التسجيل عادة بمادة عازلة تحميها من التعرض من مسح المعلومات المسجلة عليها وكذلك من التلف والتآكل من جراء مياه البحر لمدة 30 يوما.لكن مراقبين يذهبون الى أن أغلب حوادث الطيران السودانية ليست مجهولة السبب، وأن الازمة ليست بحاجة لصندوق أسود ليكشف عنها، وأن نتائج التحقيقات في السودان لا تظهر للعلن. ويرى مراقبون أنه في حال التأكد من أن شركات الطيران هى المخطئة أو المتسببة في الحادثة، غالباً ما تتم السيطرة على الأمر من خلال النفوذ والعلاقات بين الكبار، ما يضع بالتالي من أهمية اعلان المخطئ، ويدفع بالتالى لفقدان الثقة في امكانية اعلان أسباب الحادث، إلى جانب أن شركات الطيران التي تقوم بفحص الصندوق الأسود غالباً ما تكون ذات علاقة بالشركات المصنعة للطائرات وبالتالي فهى لن تخاطر بسمعة تلك الشركات وتحمل المسؤولة للطيار (المرحوم).ويرى الكابتن شيخ الدين محمد عبد الله رئيس مجلس إدارة الشركة التي تمتلك طائرة تلودي طبقاً لحوار فى وقت سابق مع الزميلة أخبار اليوم، أن الحوادث تقع لأربعة أشياء إما أن يكون خللا في الطائرة أو الظواهر الطبيعة (المناخ) أو الخلل في المطار نفسه، وما لم تكن هناك أجهزة ملاحة تساعد الطائرة في الهبوط ستكون الطائرة معرضة للحوادث، وأن أية طائرة تحتاج الى مدرج صالح للاستخدام، وتحتاج كذلك لإنارة جيدة، ولابد أن يكون المدرج مسفلتا بطريقة جيدة أي مهيئاً بالأجهزة المطلوبة تماما، والعنصر الرابع هو العنصر البشري.وعضد شيخ الدين التقارير القائلة بأن العنصر البشري يشكل 53% من حوادث الطائرات على مدار نصف قرن من الزمان، وقال(أكاد أجزم بأن النسبة تزيد، وفي كثير من الأحيان العنصر البشري يكون السبب الأكبر، فالانسان مهما تدرب وتأهل فإنه عرضة للخطأ، فهناك مشاكل عائلية لدى الإنسان وهناك الشواغل الأخرى، والتفكير والمرض والخوف والارتباك، هذه كلها موجودة لدى الإنسان، ولهذه الأسباب كانت الأسباب الأكثر متعلقة بالطاقم، قد تكون سببا في سقوط طائرة ونحوه أو قد يكون شيئا مشتركا بين العوامل الأربعة أو اثنين منها، وربما يكون أحيانا لا يوجد توافق بين الكابتن ومساعده.عموماً الخرطوم فى انتظار موسكو لمعرفة أسباب الحادثة بناءاً على حيثيات الصندوق الأسود، التى لا يتوقع أن تعلن إدانتها لنفسها أو للشركات المتعاملة معها، بكشف حقائق الصندوق الأسود، الذى لم تصدر عنه أى شفاعة طيلة سيناريوهات الفواجع الخرطومية، غير تلك التى ارتبطت بحادثة د. قرنق وكشفت حينها الصحف اليوغندية تفاصيل معلومات الصندوق الأسود للطائرة التي كانت تقل الدكتور جون قرنق في رحلة عودته من يوغندا قبيل لحظات من تحطم الطائرة، وجاء في تفاصيل المحادثات بين طاقم الطائرة ان الطائرة تحطمت على ارتفاع أكثر من 5 آلاف قدم اعلي الجبل وهوت الى السفح، علي بعد 8 أميال من نيوسايت وجهة الطائرة من مطار عنتبي اليوغندية. .. فهل ينتظر أهل المفقودين معلومات من هذا القبيل من موسكو؟!!