يَصر د. كمال عبيد رئيس وفد المؤتمر الوطني للتفاوض مع قطاع الشمال على تعزيز صورة السياسي المتشدد الذي يرفض إبداء أية مرونة في مواقفه - سياسياً كان - أو رئيساً لوفد يعول السودانيون عليه كثيراً في إنهاء أزماته بأكثر المناطق إلتهاباً وسخونةً. لحظة اختيار كمال، اعتبر مراقبون أن تسمية الرجل صاحب (الحقنة الشهيرة) دليل كافٍ على عدم جدية المؤتمر الوطني في التوصل لحلول تضع حَدّاً للنزيف والدمار بجنوب كردفان والنيل الأزرق. في مقابل هذا الاختيار كانت الحركة الشعبية تسمي ياسر عرمان باعتباره المقابل المتشدد لكمال عبيد، وربما لأن الحكومة (دقست) في عدم إسناد المهمة لرجل من أبناء المنطقتين، فكافأتها الحركة بإرسال عرمان على طريقة (مافيش حد أحسن من حد). عندما تمت تسمية الرجل راهنّا على عقلانيته وإدراكه للمخاطر التي تحيق بالسودان والأجندة التي تستثمر قضايا المنطقتين وتحيلها إلى زيت يُضاف إلى النار المشتعلة هناك، غير أنّ الرجل خذل توقعات المعتدلين الذين ناصروه وأخذ يتحدث بلسانٍ متشددٍ، ورؤية بها الكثير من (الغبش) بشأن مستقبل التفاوض حول قضايا المنطقتين. أخذ كمال يساير وللأسف كورال الرفض الذي - بدأ بالمساجد واستمر في المنابر وطفحت به بعض الصحف - لأي تفاوض مع قطاع الشمال، ونسي أن المطلوب منه التحدث بلسان (رجل دولة) ينتظر منه الناس الحلول لا تأزيم المواقف. د. كمال يحاول إرضاء التيارات والمنابر المتشددة في قضية التفاوض مع قطاع الشمال، وهذا الأمر يتضح جلياً في تصريحاته المتضاربة حيال القضية، ومن بينها قصة تجاذبه الحديث مع أحد الأئمة الناقدين للاتفاق الإنساني مع الحركة الشعبية بالمنطقتين، كمال قال: أبلغت الإمام المعني أنه لو كان في مكانه (لانتقد الخطوة أكثر منه) معقولة يا دكتور؟!!. الطريقة التي يعبر بها كمال عبيد عن مواقفه إزاء التفاوض مع قطاع الشمال غير مُطمئنة، المؤتمر الوطني أقر في إستراتيجياته العليا أهمية الجلوس إلى منسوبي المنطقتين من قبل الحركة بهدف تحقيق السلام في المنطقتين، كما أن القرار الدولي (2046) وضع الدولة السودانية في مُواجهة مشكلات المنطقتين رضينا أم أبينا، إلاّ أنّ خطاب الدكتور ما زال يتودّد إلى الأطراف الرافضة للحوار لأسبابٍ لا صلة لها بالمصلحة الوطنية. قد نتفق مع كمال عبيد وآخرين على وجود (تفلت) في رؤية منسوبي قطاع الشمال تجاه السلام مع الحكومة، ولكن هذه المسألة لا تنفي حاجتنا الماسّة للتوصل إلى سلام ينهي دوامة الحرب والمُواجهات ويضع حدّاً للصداع الذي ظل (يتاور) البلد من فترةٍ لأخرى جراء تباعد الأطراف وعدم حرصها على إنهاء الأزمات الإنسانية والأمنية عبر التفاوض. د. كمال تنقل عنه صحف الأمس أنّه لا تفاوض مع ما يُسمّى قطاع الشمال، وكمال نفسه يتحدّث لصحيفة أخرى عن شروط للتفاوض مع قيادات قطاع الشمال، بينما يعلم القاصي والداني أن هذا الحوار بدأ بالفعل، وأن قطاع الشمال أصبح جُزءاً من منظومة القرار الدولي (2064)، ووقع بالفعل اتفاقاً إنسانياً. حينما انتقدنا إقحام الحوار مع قطاع الشمال في خانة (الحلال والحرام)، لم نكن بعيدين عن ملة الإسلام ولا مُداهنين لعرمان وقيادات قطاع الشمال، كنا حينها نحذر فقط من أن تتحوّل قرارات الدولة إلى فتاوى تحركها الأجندة والغبائن والثأرات، ونبّهنا إلى خطورة تعبئة المساجد والمنابر ضد الإستراتيجيات العليا، وقلنا إنّ الدولة هي كيان خير به من العلماء والوطنيين ما يطمئن أهل السودان على سلامة النوايا والتوجهات. الرؤية النهائية لعبيد مازالت مُتداخلة بكثيرٍ من المخاوف، فالرجل يحاول تنفيذ إستراتيجية الحزب الدولة التي تتعامل مع الحوار كقيمة استراتيجية، وفي نفس الوقت فإنّ كمال مشدود للفتاوى المتطرفة والخطب الملتهبة بشأن مهمته، لذا فإنّ تصريحاته تتنقل ما بين الرفض ووضع الشروط و(مسك العصا من النص) بينما الرجل يفاوض قطاع الشمال. يبدو لي أنّ كمال عبيد غير مرتاح للمهمة التي تم تكليفه بها من قبل المؤتمر الوطني، وقد كان من الأوفق له أن يعتذر بدلاً عن حالة (الدغمسة) التي تنتظم تصريحاته ومواقفه حيال التفاوض.