التقط أحد الزملاء صورة لمجموعة من الصبية يلعبون ببراءة ولا مبالاة فوق الحواجز الخرسانية المحيطة بالسفارة الأمريكيةبالخرطوم، وعلق بأنهم إستطاعوا فعل ما لا يفعله الكبار الذين تشعر بتوجسهم وهم يعبرون هذه الحواجز التأمينية.. وكم كانت مفاجأتي كبيرة ولنقل إنها كانت مشوبة ببعض الرهبة وانا أجد حاجزاً أسمنتياً بحجم (عائلي) يوضع الأربعاء الماضي في المدخل الجنوبي للشارع الفرعي المؤدي لمقر عملنا ب(الرأي العام) التي تجاور السفارة الأمريكية.. وهذه الحواجز الخرسانية كانت حديث العابرين حيث تم تدعيمها وإستبدال بعضها قبل فترة وجيزة بحواجز اسمنتية أكبر، قبل أن يوضع هذا الحاجز الخرساني الإضافي الضخم.. وربما لم يكن الأمر ليثير الإنتباه لو انه جرى في الظروف العادية لكن التدعيم الذي سبقه، وما قبله من زيادة الإجراءات التأمينية التي يلاحظها المارة، إضافة إلى زيادة عدد أفراد الشرطة السودانية العاملين على تأمين السفارة، خلق تساؤلات كثيرة حول زيادة تأمين السفارة الأمريكية عن بقية السفارات الاخرى بالخرطوم، وما إذا كانت أمريكا تتخوف من أمر محدد؟ مما يغري بقراءة زيادة التأمين مع الهجوم الذي استهدف السفارة الأمريكية في صنعاء مؤخراً وأسفر عن مقتل ستة عشر شخصا، والذي أعلنت جماعة الجهاد الإسلامي في اليمن مسؤوليتها عنه، وزادت بالتهديد بشن هجمات على سفارات أخرى. ولكن قبل القفز إلى حادثة اليمن التي ربط مراقبون بينها وبين تعزيز الإجراءات في الخرطوم، فإن أمراً حدث أواسط أغسطس الماضي يشير إليه بعض المراقبين كمحفز لتعزيز التأمين حول السفارة، فقد طوقت الشرطة مبنى السفارة الامريكية يوم (15/8)، وشددت الاجراءات الامنية في محيطها بعد تلقيها بلاغاً عن وجود قنبلة قابلة للانفجار قرب الجدار الخارجي لمبنى السفارة ثبت لاحقاً كذبه، مما حدا بالشرطة أن تتخذ تدابير أمنية لمنع تكرار الحادث.. ويشير عدة مراقبين إلى أن هذه الحادثة زادت من توجس السفارة والقائمين على تأمينها بل وإنتقل التوجس حتى للمجاورين للسفارة. وعودة بالذاكرة للوراء قليلاً فإن حادثة اغتيال الدبلوماسي الأمريكي جون مايكل جرانفيل بالخرطوم مطلع العام الحالي كانت إحدى محاور الأخذ والرد لوقت طويل حول الإجراءات الأمنية، ويربط مراقبون بينها وبين زيادة الحرص حيث بينت ان الخرطوم لم تعد كما الماضي، ورغم أنه لا خلاف كبير حول كفاية إجراءات الحماية المكثفة حول السفارات (سواء أكانت بواسطة موظفيها أو عبر شرطة تأمين المنشآت وتأمين البعثات الدبلوماسية السودانية) لكن من نافلة القول إن السفارة الأمريكية عدا غيرها تتميز بميزات وبإجراءات أمنية خاصة طابعها التشدد والحرص الزائدين فالأشخاص العابرون لحواجز تأمين السفارة راجلين لا يمكنهم الوقوف طويلاً في حرم السفارة فما إن تتوقف لإلقاء التحية على أحدهم إلا وتنطلق صافرات أفراد التأمين مطالبة لكم بفض (الجمهرة)، وإذا كنت تتحدث في الهاتف وأنت تعبر فأنت غير مرحب بوقوفك قليلاً او كثيراً حسب التعليمات (ممنوع)، اما سيارات العاملين في محيط السفارة فهي عرضة للتفتيش الدقيق بواسطة الأجهزة الحديثة، ولا يسمح لركابها بالمرور إلا بعد إجراءات التحقق التي تبعث على الملل.. ورغم انه تم تقديم شكاوى كثيرة من العاملين بجوار السفارة والتلويح عدة مرات بطلب إعادة فتح شارع علي عبد اللطيف الذي تحتل فيه السفارة موقعاً مميزاً إلا أن الإجراءات تزداد وتصبح اكثر تقنيناً عن ذي قبل مما يبعث مجدداً على التساؤل عن أسباب هذه الجرعة التأمينية الزائدة؟. ويذهب خبراء في المجال إلى ان الإجراءات ربما كانت عملاً دورياً لا إرتباط بينه وبين أحداث صنعاء وهو عين ما اكده مصدر بالسفارة عقب وضع الحاجز الجديد الضخم، وعلل بأن الامر لا يعدو أن يكون مجرد اجراء امني روتيني لتأمين السفارة، وشدد على عدم وجود اية علاقة بينه وبين تفجير السفارة الامريكية بصنعاء. ويقول مراقبون إن ما يعضد زعم السفارة الأمريكية انه في حالة وجود خطر محتم ومحدد تكون هناك إجراءات كثيرة منها زيادة عدد الأفراد، وإطلاق تحذيرات للرعايا أو إجلائهم لمناطق أخرى، وهو أمر لم يحدث . ويضيف مراقبون ان السفارة الأمريكية أكثر السفارات التي يمكن ان تستهدف بأي نوع من العمليات في ظل التهديدات التي تطلقها الجماعات المختلفة لها.. لذلك فمن الطبيعي أن تتميز بدرجة اعلى من التأمين خصوصاً وأنها موجودة في منطقة كثيفة الحركة.. ويقول العميد أمن حسن بيومي انه ليس من الضروري ان يكون هناك خطر محدد فالقاعدة أن الإفراط في الإجراءات خير من التفريط في الأمن، وتكلفة الإجراءات أقل من خسائر التفريط.. ويقول الخبراء إن من حق السفارات ان تحدد مقادير حاجتها للتأمين من خلال إحساسها بالأمن أو عدمه بناء على علاقتها بالدولة والمجتمع الذي تقيم فيه، وهناك حالات معينة تستدعي زيادة الإجراءات كأن ترد معلومات عن تهديد معلوم او مجهول للسفارة والعاملين فيها وهنا تتعاون السلطات المحلية بإجراءاتها اللازمة للحماية بناء على طلب السفارة، لكنهم يؤكدون أن الخرطوم كانت وما زالت حتى وقتنا الحالي من أكثر العواصم أمناً بالنسبة للأجانب، ويتبدى ذلك في التعاون الرسمي والشعبي معهم والإحترام وبذل المستطاع لهم، وعليه فإن أي مخاطر - إن وجدت - إن لم تأت من الخارج فإنها لن تتجاوز الجرائم الجنائية المعتادة، وهو أمر نادر الحدوث.. ويقول بيومي ان الأمن في الخرطوم نابع من طبيعة الشعب السوداني، ولكنه يستدرك بأن الوضع بدأ في التغير نتيجة وجود عدد كبير من الدخلاء من جهات مختلفة ويدلل بيومي بحادثة مقتل جرانفيل كمسبب لرفع درجات التأمين. لكن من ناحية أخرى من الممكن ان يسير إدعاء أوكامبو ضد الرئيس البشير خطوات من قبل المحكمة الجنائية الدولية الشهر المقبل، ومعلوم يد امريكا في هذا الامر، وبالتالي فإن أي عمل يهدف إلى التأثير على أمريكا يتم عبر سفارتها بالخرطوم، فالسفارات هي الثقوب الأمنية ومناطق الضعف بالنسبة لهم كما يقول بيومي، وربما تكون هناك معلومات أولية توافرت لهم عن شئ سيحدث، وربما تزامن ذلك مع أحداث اليمن من قبيل المصادفة.