قبل ما يزيد عن أسبوع، كان المواطن عوض سعيد المصري يقف في منتصف شارع البلدية الشهير بوسط العاصمة والسيارات العابرة تمر عن يمينه ويساره ببطء، يرتدي بدلة زرقاء (اشتراكية) ويحمل لافتة صغيرة كتب عليها: (الظلم يهدد البلاد ويذهب السلطان)..وحينما رأيت صورته على صدر إحدى الصحف لم يساورني شك في أن الصورة تم إلتقاطها في أحد الشوارع في دولة عربية ما، ودفعتني ملامح الرجل وملابسه إلى الإعتقاد بأن الصورة مأخوذة من أحد شوارع القاهرة، أو الإسماعيلية أو الإسكندرية..ولم اقطع الشك باليقين إلا عندما قرأت السطور التي تعلق على الصورة..وذكرت أن الرجل الذي يبلغ من العمر خمسين عاماً ابتكر هذه الطريقة غير المألوفة في الخرطوم ليحتج بصورة فردية على فصله من وظيفته ككبير للتقنيين بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وذلك منذ عام ونصف العام تقريباً دون أن يمنح مستحقاته. وفي آخر الأسبوع حملت (الرأي العام) على صدر صفحتها الأولى صورة كبيرة لمجموعة من الطبيبات والأطباء الذين حازوا على درجة نائب أختصاصي لكنهم لم يجدوا حظهم من التعيين في مستشفيات وزارة الصحة، وكان مشهد المظاهرة لطيفاً وأفرادها من الأطباء والطبيبات يحملون بين أيديهم لافتات صغيرة كتب عليها (أنظروا في مطالبنا)..(أين حقنا في التدريب؟)..(لا للمزيد من هدر الوقت)..وقدمت هذه المظاهرة (الناعمة) مذكرة لوكيل وزارة الصحة الذي جاء تجاوبه (ناعماً) أيضاً عندما قال ان الوزارة ستفي بوعدها في توظيف الأطباء في أكتوبر المقبل.. ويتحول الأمر برمته إلى ما يشبه ظاهرة آخذة في التزايد خصوصاً بين المهنيين إذا أضيفت إليها المشاهد الاحتجاجية المشابهة التي تصاحب توقيف الصحف ومصادرتها، إذ يقف الصحفيون بصورة (مهذبة) على الرصيف أو الشارع، او ربما ذهبوا الى مكاتب مجلس الصحافة يحملون (بتهذيب) لافتات صغيرة كتبت عليها شعاراتهم ومطالبهم التي ينادون بها.. الغريب في الأمر أن درجة استجابة السلطات لما تطالب به هذه المظاهرات (الناعمة) تبدو أكبر من استجابتها للاحتجاجات الدموية، كأنها تبعث رسالة إلى كل المناوئين مفادها أن الاحتجاج (بأدب) هو أمر مسموح به وربما كان مفيداً بخلاف الاحتجاجات العنيفة. وكانت العاصمة قد شهدت خلال السنوات الماضية مصادمات عنيفة بين الطلاب وقوات الشرطة، وكانت جامعات مختلفة مسرحاً لهذه المصادمات، وأشهرها تلك التي وقعت قبل أعوام عندما طالب طلاب رابطة الدبلومات بجامعة السودان بالرقم الهندسي..وقاموا بإحراق بعض مباني الجامعة..وأمتدت نيران الغضب الطلابي إلى السوق العربي..وأنتقلت العدوى إلى جامعة النيلين ما أدى إلى مصرع طالبين إثنين..دون أن يؤدي إلى نيل الطلاب لمطالبهم في آخر الأمر.. ويلاحظ أن كل الذين قاموا بهذه المظاهرات (الناعمة) في الفترة الأخيرة هم من المهنيين والموظفين الذين لهم قضايا ليست ذات طابع سياسي في النهاية..بخلاف احتجاجات الطلاب التي تحمل بصمات التنظيمات السياسية داخل الجامعات وخارجها..ويقول أحد ناشطي المجتمع المدني طلب حجب اسمه أن للإحتجاج أساليب عديدة منها التصدي والمناصرة والحملات، وعادة ما يسعي أعضاء المجتمع المدني -إلى أن للاحتجاج بشكل سلمي يرفض العنف لكن الذي يتحكم في مسار الأحداث هو من يحتج؟ وكيف؟ وللحصول على ماذا؟، وكيف يتم التعامل مع ذلك؟..ويضيف: (هؤلاء الأطباء أنفسهم لو تم التعامل معهم بالعنف لكانت الأحداث أتخذت طابعاً عنيفاً).. ويهمس البعض أن مثل هذه التظاهرات المتعلقة ببعض مطالب المهنيين والتي لا ترقى إلى المناداة بتغيير نظام الحكم أو طبيعته لا تثير حفيظة السلطات، وربما على العكس تتنزل برداً وسلاماً على الحكومات الساعية للظهور بمظهر من يحترم آراء الناس ويسمح لهم بالتعبير عنها. أما تلك المظاهرات التي تواجه بالرصاص والموت فليست على أية حال هي مظاهرات البحث عن وظيفة أو المطالبة بتوفيق الأوضاع، لكنها المظاهرات التي تهدف إلى الإطاحة بنظام سياسي بأكمله..ففي ثورة أكتوبر وابريل على سبيل المثال كانت المظاهرات التي انتظمت شوارع الخرطوم وبحري وأم درمان ذات طابع سلمي في باديء الأمر كما يقول الأستاذ حسن شمت الذي كان من بين الذين صنعوا تلك الثورة في الشوارع..قبل أن تبدأ الشرطة في (ضرب) المتظاهرين الأمر الذي حدا بالبعض للتسلح بقنابل (المولوتوف) وبالعصي للدفاع عن النفس ومجابهة العساكر..إلاّ أن بعض المندسين وسط الجماهير من قوى الأمن كما يقول شمت كانوا يقومون بكسر المحلات ونشر الفوضى وإطلاق النار على السلطات لتجد مسوغاً للإنقضاض على المظاهرات.. ويلاحظ شمت أن أي نظام غير ديمقراطي يكون أشد قسوة ودموية من الذي سبقه، إذ أن نظام مايو كان أشد عنفاً من حكومة الفريق عبود وأشد شراسة..ويصف تظاهرات الإنتفاضة التي كان من الذين فجروها في الطرقات بأنها عنيفة جداً إشترك فيها كثيرون حتى (بتاعين الورنيش)..أما في العهد الحالي فيتذكر شمت مظاهرة قبل أشهر سار فيها زعيم الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد بنفسه..وضربت المظاهرة (بالبمبان) حتى أن نقد الذي كان وسط ذلك الخضم (تعب شوية) كما يقول شمت. ورغم أن هذه المظاهرات (الناعمة) لا تشكل في نهاية المطاف تهديداً حقيقياً لوجود الحكومة، أو مصدر خطر إلا أن قوات الشرطة تظل تراقبها عادة من بعيد حتى ينفض سامر المحتجين ويمضي كل إلى حال سبيله..ولكن مثل هذه التظاهرات تكسر حاجز الخوف ما بين الجمهور وتعبيره عن آرائه ومشاكله من جانب..وبينه وبين السلطات من جانب آخر..وهو ما يصب في صالح المضي قدماً نحو أساليب مدنية ومتحضرة في التعبير..والإبتعاد عن العنف..والموت..وقنابل (المولوتوف)..