وسط تعقيدات وتقاطعات دولية يقود السفير دفع الله الحاج علي بعثة السودان الدائمة لدى الأممالمتحدة..السيد السفير يمارس مهمته بعقلية تمازج بين الرياضيات والدبلوماسية، حيث توزن الكلمات وتقاس المواقف. الظروف التي تعمل فيها البعثة تتلخص في أن معظم قضايا السودان الخطيرة- وما أكثرها- موضوعة على طاولة مجلس الأمن. فحظوظ السودان من العطف الدولي تبدو متدنية بالنظر إلى مبدأ المصلحة الذي يسود..السودان لم يرتبط بمصالح استراتيجية حيوية يسيل لها لعاب الأعضاء الدائمون، بصورة تغريهم باستخدام حجر الفيتو لجني ثمار المصلحة. السيد السفير يبدو منهمكاً في اطفاء النيران المشتعلة، أو وقف تقدم الحريق على الأقل، والتعاطي بواقعية مع قضايا السودان المطروحة على طاولة مجلس الأمن. في مكتبه بنيويورك جلست (الرأي العام) مع السفير دفع الله تقلب معه ملفات السودان لدى المنظمة الأممية..وتحاول أن تعرف أسرار وخبايا قرارات مجلس الأمن، وأن تعرف أكثر عن أصدقاء السودان، لأن الكل يعرف من هم أعداؤه. * السيد المندوب كيف تصنع السياسات الخارجية للدول من وجهة نظرك؟ بصورة عامة هناك مدرستان ، مدرسة ترى أن السياسة الخارجية للدول تصنعها رئاسة الدولة ، والثانية ترى أن وزارة الخارجية بالإضافة إلى أنها جهاز تنفيذي, فهي تشارك أيضاً في صنع السياسة الخارجية إلى جانب أجهزة أخرى مثل البرلمان والحزب الحاكم، وأيضاً الأجهزة الأمنية ويؤخذ في الإعتبار الرأي العام . * وهل يجب بالضرورة أن تشارك الأجهزة الأخرى في تنفيذ السياسة الخارجية إلى جانب وزارة الخارجية؟ تظل الخارجية هي الجهاز الرئيسي لتنفيذ السياسة الخارجية ويمكن أن يعهد لمبعوثين رئاسيين أداء مهام تتعلق بالسياسة الخارجية في إطار الدبلوماسية الرئاسية . * إذا أسقطنا هذه المدارس على السودان، هل تشارك وزارة الخارجية في صنع السياسة الخارجية أم أنها تنفذ فقط؟ نعم كما ذكرت فإن وزارة الخارجية تشارك الآن في صنع السياسة الخارجية ، وقد بلورت الوزارة عدداً من المواقف فيما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية قدمها السيد وزير الخارجية لرئاسة الدولة في مراحل مختلفة . وعلى سبيل المثال لا الحصر التوصيات التي تمخضت عن الاجتماع الدي دعا له السيد وزير الخارجية عدداً من الخبراء في مجالات مختلفة لدراسة مآلات القرار 2046. * الاعتبار السائد لدى البعض أن البعثة السودانية في نيويورك قليلة الحيلة بشأن أي تأثير على قرارات مجلس الأمن؟ هذا غير صحيح بدليل أنه لم يصدر في هذه المرحلة حتى الآن قرار يمكن أن يصنف بأنه أضر بمصالح البلاد ، وفي هذا السياق يصبح من المهم توضيح أن مناهج اتخاذ القرار في مجلس الأمن أقرتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بما يخدم مصالحها في المقام الأول وأبرز دليل على ذلك اعتماد حق النقض للدول الخمس دائمة العضوية ، هذا بالإضافة إلى أن فعاليات مجلس الأمن وجلساته تتسم بعدم الشفافية وتتم في اجتماعات مغلقة تضم الأعضاء الخمسة عشر فقط ، ورغم طبيعة عمل مجلس الأمن كما أسلفنا فبعثة السودان ترتبط ارتباطاً وثيقاً بجميع أعضائه ولا يكاد يمر يوم إلا ونلتقيهم في إجتماعات ثنائية وأيضاً على هامش اجتماعاته المغلقة. * إلى مدى تجدي هذه اللقاءات؟ - في هذا السياق دعني ألقي مزيداً من الضوء حول ارتباط البعثة بالمجلس بل وتأثيرها عبر الأصدقاء في صياغة ما يصدر من المجلس من بيانات، وأقول لك أننا علمنا أن مندوبة الولاياتالمتحدةالأمريكية سوزان رايس عندما احتدم الخلاف بينها وبين ممثل دولة صديقة ذات مرة حول صياغة إحدى البيانات الخاصة بالسودان، قالت له لا يمكن أن يصيغ لنا مندوب السودان بياناتنا ، ومثال آخر عندما مازحني مندوب إحدى الدول قائلاً أعتقد أننا يجب أن نمنحك العضوية الفخرية لمجلس الأمن نظراً لوجودك الدائم حولنا .. وللحق فإن هذا الارتباط الذي أعنيه بين البعثة ومجلس الأمن قديم ولم يبدأ معي فقط . * هل كل جلسات مجلس الأمن مغلقة ولا يسمح للمندوبين غير الأعضاء بالحضور؟ نعم جلسات المجلس مغلقة ما عدا بعض الجلسات وهي قليلة جداً . * أين تكون أنت شخصياً بالضبط عندما يناقش المجلس موضوعاً خاصاً بالسودان؟ لعلك تقصد الاجتماعات المغلقة!! =واصل قبل أن أجيب= قبل الجلسة بأيام التقى بجميع الأصدقاء وبقية الأعضاء ورئيس المجلس في إجتماعات ثنائية أوضح لهم رؤانا في الموضوع الذي سيُبحث وفي كثير من الأحيان أدعم ذلك برسائل مكتوبة ووثائق مساندة ويوم الجلسة أكون موجوداً أيضاً في الصالة المجاورة لقاعة الاجتماعات ويفصل بيننا وبينها حائط فقط ، وخلال الاجتماع الذي يستمر لساعات يخرج الأصدقاء وينقلون لنا ما يدور بالداخل ونزودهم بالمعلومات التي تمكنهم من عكس وجهة نظرنا والدفاع عن مواقفنا وفقاً لتطورات النقاش داخل الاجتماع . * هل تتخذ القرارات في مجلس الأمن بعيداً عن الدول المعنية بالقرار كما في حالة السودان مثلا؟ من ناحية شكلية نعم ، لكن الدول المعنية تكون مشاركة بالشكل غير المباشر الذي أشرت إليه في السؤال السابق . * حسب مشاهدتي في زيارتي لمجلس الأمن أن صالة المجلس المجاورة لقاعة الاجتماعات يجلس فيها صغار الدبلوماسيين الذين يتابعون أعمال الجلسات المغلقة ، ألا تشعر بحرج وأنت المندوب الدائم عندما تكون جالساً هناك ؟ لا أرى منقصة في ذلك فهم في المقام الأول دبلوماسيون (أنا أجلس حيث تكون مصلحة بلدي)، وطالما جلوسي يخدم مصلحة بلادي فلا استنكف عن ذلك .. وأذكر أن ذات الملاحظة أبداها لي مندوب دائم في الأممالمتحدة وكان ردي هو ما ذكرته لك. * عند الحديث عن أصدقاء السودان في مجلس الأمن يتبادر إلى الذهن الصين دائماً..هل هناك علاقة قوية مع دول أخرى؟ التعويل ليس على الصين فقط وإنما على مجموعة من الدول مثل روسيا التي لديها مواقف قوية داعمة لقضايانا عموما ، وهناك آذربيجان والهند وباكستان والمغرب . * الكثيرون يتساءلون عن السبب الذي جعل الصين وروسيا تستخدمان حق الفيتو لصالح سوريا، وفي ذات الوقت تضن أي منهما على السودان باستخدام هذا الحق؟ موقع سوريا الجيوبولتيكي مهم للغاية ويؤثر في العلاقات الدولية وكذلك ارتباطها بالقضية الفلسطينية وعلاقة إسرائيل بذلك وقرب سوريا من المنافذ البحرية الحساسة والمهمة يُشكل بعداً مهماً أيضاً .. كل هذه العوامل تجعل سوريا محمية بالفيتو الروسي والصيني إلى حدٍ ما . * لنعد إلى السودان، لماذا وقفت روسيا والصين موقفاً مهادناً فيما يتعلق بالقرار 2046؟ لماذا لم يتم استخدام حق النقض لصالح السودان؟ جميع عناصر القرار تقريباً جاءت بتوصية من مجلس السلم والأمن الأفريقي والذي طلب إلى مجلس الأمن أن يتبنى تلك العناصر بواسطة قرار تحت الفصل السابع ، ولذلك عند اتصالنا بوفدي روسيا والصين في هذا الخصوص ذكرا أنهما لا يستطيعان الوقوف ضد مقترح جاء من كيان سياسي وأمني يمثل أربعة وخمسين دولة . ورغم هذا أسهموا في تخفيف اللغة وإدخال فقرات طلبنا مساعدتهم فيها وقيدوا كذلك الإشارة لتطبيق العقوبات وفقاً للمادة (51) ، وزادوا على ذلك بتأكيدهم لنا بأنهم لن يسمحوا بتطبيق عقوبات علينا . * هل ترى أن القرار 2046 كان من الأفضل مكافحته في الإطار الأفريقي قبل أن يجد طريقه إلى مجلس الأمن؟ أعتقد أن مدى التأثير على القرار 2046 كان يمكن أن يكون كبيراً لو تم في مرحلة بيان مجلس السلم والأمن الأفريقي الذي أحال الأمر لمجلس الأمن الدولي . * سبق وأن قللتم من خطورة القرار 2046 في الوقت الذي كان يرى فيه كثير من المحللين أنه ينطوي على خطر كبير وسيؤدي إلى فرض عقوبات ، من كان على صواب؟ الحمد لله فقد أكدت الوقائع الأخيرة صحة ما أشرنا إليه حينما قلنا إن لمفاوضينا قدرات ستمكنهم من تجاوز هذا القرار . فحينها قلنا إن القرار يحثنا على التفاوض مع دولة الجنوب وإنه ليس هناك أحد يستطيع أن يفرض علينا ترتيب أولويات الموضوعات قيد البحث وأضفت بأن مفاوضينا سيتمكنون بما لديهم من مقدرات من تجاوز هذا القرار وإنهم سوف يركزون على أهمية التوصل لحل المسائل الأمنية في إطار الحل الشامل وإيلائها أولوية قصوى، وهذا ما تم بالفعل بحمد الله عندما اعتمد وفدنا المفاوض منهج لا شئ متفق عليه ما لم يتم الاتفاق على كل شئ Nothing is agreed unless everything is agreed . هذا ما قلته (في لقاء صحفي سابق في صحيفة «الرأي العام») في وقت رسم فيه كثير من المحللين صورة مخيفة للقرار 2046 ... وكنت أقول دائماً إن القرار في كل فقراته ونصوصه يخاطب البلدين ما عدا فقرتين تخصان السودان، الأولى تتعلق بوقف القصف والثانية بتوصيل المساعدات الإنسانية للمتأثرين في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق .. وما عدا ذلك يخضع للتفاوض بين الطرفين . * يرى المراقبون أن هناك تحولاً في منهج التعامل مع المدعي العام للمحكمة الجنائية داخل مجلس الأمن .. من أين جاءت فكرة هذا التحول في التعامل مع المجلس ؟ جاءت بعد إستلام مهامي والتشاور مع السيد وزير الخارجية الأستاذ علي أحمد كرتي الذي وافق على عدم ترك المسرح خالياً لأوكامبو وأقصد داخل الجلسات الرسمية لمجلس الأمن وكان يجب أن نُسمع صوتنا وحججنا لأعضاء مجلس الأمن والتأثير عليهم . ففي السابق كانت موجهات الحكومة السودانية فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية هي عدم التعامل مع المحكمة ، وانطلاقاً من هذا كانت البعثة لا تشارك في جلسات المجلس الخاصة بتقرير المدعي العام للمحكمة . وبعد المراجعة إتضح أن سياسة عدم المشاركة داخل المجلس أدت إلى غياب صوتنا وحُجتنا عن الجمهور الذي يجب أن نُحدث فيه التغيير وهم الدول الأعضاء في المجلس . * ماذا تقصد ؟ هل استطعتم محاصرة أوكامبو نتيجة لهذه السياسة ؟ أقصد بأننا أصبحنا نشارك في جلسات المجلس التي يقدم فيها المدعي العام للمحكمة تقريره للمجلس كل ستة أشهر وأصبحنا نقارعه الحجة بالحجة وتجاوزنا موضوع التعامل مع المحكمة بتوضيح أن مشاركتنا في جلسات المجلس لا تعني بأي حال الإعتراف بالمحكمة أو التعامل معها ، وبالفعل أحدثت مشاركتنا أثراً إيجابياً كبيراً وحاصرنا المدعي العام وأضعفنا موقفه وفندنا دعاويه في الجلسة الأخيرة حتى قال إنه سيُقدمني للمحكمة الجنائية لأنني فندتُ ودحضتُ كل ما ذكره وقد أدى تصرفه هذا لاستهجان من غالبية أعضاء مجلس الأمن واهتزت صورته ومصداقيته وأوضح الطريقة غير الموضوعية والإنفعالية التي يدير بها القضايا الحساسة الموكلة إليه . * الآن ذهب أوكامبو فهل انتهت قضية المحكمة الجنائية الدولية؟ في تقديري الخاص أنها ستخبو مع الزمن ومع تطور العملية السلمية في دارفور التي قطعت شوطاً كبيراً ونأمل أن تتوج قريباً إن شاء الله مساعي الحكومة بحل ازمة دارفور بصورة نهائية وجذرية ، مما يؤدي إلى قفل وإسقاط موضوع المحكمة التي هي في الأساس تنطلق من دوافع سياسية . * السيدة فاتو بنسودا التي خلفت أوكامبو هل هي على ذات النسق، هل يمكن أن يدخل السودان في معركة أخرى معها؟ دعنا ننتظر التقرير الذي ستقدمه خلال شهر ديسمبر القادم، التقرير سيوضح ما إذا كانت تسير على خطى سلفها أم لا. علماً بأنها عملت في مكتب أوكامبو لعدد من السنوات وأتمنى ألا تقع في ذات الأخطاء التي وقع فيها أوكامبو. * هل العلة في قضية الجنائية تكمن في المدعين العامين للمحكمة الجنائية أم في موضوع الإحالة من مجلس الأمن؟ العلة تكمن في الاثنين معاً ، بالنسبة للمدعي العام فقد أثبت أنه مُسيس وغير محايد، أما بالنسبة لمجلس الأمن فإحالته لموضوع دارفور للمحكمة الجنائية كرَّس ربطاً مُخلاً بين جهاز سياسي وجهاز قضائي مما يؤثر سلباً على إستقلالية المحكمة الجنائية ، وبالمناسبة الآن وللمفارقة أيضا فإن ثماني دول من خمس عشرة دولة هي أعضاء في مجلس الأمن الآن غير منضوية لميثاق روما ، وعموماً جميع الجوانب المتعلقة بالمحكمة الجنائية الدولية الآن تشوبها الغرابة وعدم المنطق . * سؤال أخير، هل علاقتك الشخصية بالمندوبين الغربيين خاصة سوزان رايس مندوبة الولاياتالمتحدةالأمريكية بذات العداء بين دولهم والسودان؟ عندما تؤدي مهامك الدبلوماسية فليس هناك حُب وكراهية ، ومصلحة البلاد هي الهم الأول والأخير ، بالإضافة إلى أن من أهم واجبات الدبلوماسي ترميم الجسور بين بلده والبلدان الأخرى ودفع الضرر عنها ، وفي هذا السياق نطّلع بمحو آثار المتربصين بالسودان ، فهذه هي الأهداف التي ننطلق منها في التعامل مع الجميع . وفي سياق أداء الواجب الدبلوماسي تُحجب العواطف والمشاعر الشخصية، فلو أطلقنا لعواطفنا الشخصية العنان لتحاشينا رؤية الكثيرين من الذين يضمرون لبلادنا العداء، ولكن نضطر للتعامل معهم من هذه الخلفية ونكبت المشاعر الشخصية .