مروي.. رصد مسيرات فوق ارتكازات الجيش السوداني    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إتفاق التعاون بين السودان وجنوب السودان: قراءة ا قتصادية متأنية

يتكون اتفاق التعاون الذي تم بين دولتي السودان وجنوب السودان في السابع والعشرين من سبتمبر 2012 من ست اتفاقيات لمعالجة ثمانية قضايا هي: الأمن، المواطنين، دفعيات فوائد ما بعد الخدمة
(المعاشات)، الحدود، التعاون بين البنوك المركزية، التجارة والموضوعات ذات الصلة، النفط والقضايا ذات الصلة، والقضايا الاقتصادية الأخرى التي تضم الأصول والديون والمتأخرات والمطالبات. السمة المميزة لهذه الاتفاقيات ، باستثناء اتفاقية النفط، هي أنها إطارية ، لأنها تحتوي على مبادئ وخطوط عامة غير مفصلة بالقدر الكافي. لهذا فهي تحتاج إلى المزيد من التفاصيل والآليات اللازمة من قبل جهات الإختصاص في البلدين لتطبيقها وإنزالها إلى أرض الواقع دون وسيط خارجي، ما جعل «إنشاء» و»تكوين» اللجان المشتركة للقيام بهذا الدور هدفا أساسيا للإتفاقيات المعلنة. وإلى أن تكتمل هذه المهمة التي تحتاج إلى 6-9 شهور إن كتب لها الإستمرار، فستبقى هذه الإتفاقيات دون مردود اقتصادي ملموس في المدى القصير، ما يعني أن «ليل الفرح» لن يدوم طويلا. أما في المدى المتوسط فقد يكون لمجمل الإتفاقيات تأثير إيجابي على الأوضاع الاقتصادية وربما المعيشية إن نفذت، لكن هذا الأثر سيكون محدودا ولن يكون بديلا للإصلاح الاقتصادي والمالي كما سنرى لاحقا.
أيضا، هناك عدة ملاحظات يجب الوقوف عندها نسبة لأهميتها في فهم وتسويق وتقدير تأثير حزمة الاتفاقيات الموقعة على الوضع الاقتصادي :-
* هناك قضايا أخرى مهمة لم يتم الاتفاق حولها مثل قضيتي أبيي والحدود. أضف إلى ذلك قضايا الصراع الدائر في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وجبال النوبة، ما يعني أن ما تم من إتفاق ليس بأي حال من الأحوال مؤشرا على عودة الاستقرار الأمني والسياسي للبلاد. بالتالي فالحديث أن الاتفاقيات ستؤدي إلى خفض الصرف الأمني والعسكري وتشجيع الإستثمار في السودان ليس له مبرر، رغم أن أي اتفاق بين الشمال والجنوب ، حتى ولو كان إطاريا ، يعتبر خطوة في الإتجاه الصحيح نحو السلام والإستقرار.
* مطالبة السودان بالدعم المالي خلال المرحلة الانتقالية بعد الانفصال لم تأتِ من فراغ وإنما إستنادا على إتقافية السلام الشامل التي تتضمن المبادئ الأساسية لإنفصال الجنوب مع وضوح النية للتعامل مع تلك المبادئ على أساس أن لا يضار أي من الطرفين (الشمال والجنوب) سياسيا واقتصاديا في حالة حدوث الإنفصال. وبما أن السودان أضحى المتضرر الوحيد بعد الإنفصال فقد تم الإتفاق بين الفرقاء في إطار الآلية الأفريقية راعية مفاوضات ملف النفط على أن تتم معالجة فاقد السودان من عائدات النفط عبر ثلاث قنوات: إجراءات خاصة بالسياسات الاقتصادية الإصلاحية تقوم بها حكومة السودان، مساعدات في شكل تحويلات مالية تقدمها حكومة الجنوب، ومساعدات مالية من المجتمع الدولي بما في ذلك الدول الكبرى والمؤسسات المالية والتنموية والإقليمية والدولية. لهذا فإن الاتفاق حول «الترتيبات المالية الإنتقالية» هو إيفاء بإلتزام سياسي وأخلاقي جدير بالإشادة.
* غياب وزراء القطاع الاقتصادي (المالية، النفط، التجارة، محافظ البنك المركزي ... إلخ) يثير الكثير من الشكوك حول مصداقية ما تم الإتفاق عليه، ويكشف التباعد بين المفاوضين على الصعيد السياسي وصناع القرار الاقتصادي في الجهاز التنفيذي. هذا بدوره قد يقلل من الثقة في التنفيذ الفوري والفعال للإتفاقيات، خاصة فيما يتعلق بالموارد المالية والبشرية المطلوبة لإنفاذها والتي للأسف لا يعرف أحد حجمها.
* المدهش أن الاتفاقيات الموقعة مصاغة باللغة الإنجليزية فقط حيث لم تكن هناك نسخ مطابقة وموثقة باللغة العربية لغة دولة السودان الرسمية، ما يفتح الأبواب واسعة للمغالطات والتفسيرات المتناقضة التي قد تفشل الإتفاق بين طرفي التفاوض في مرحلة التطبيق، خاصة وأن طرفي التفاوض اتفقا على الإسراع في تمرير الإتفاقيات عبر الأجهزة الرسمية دون إخضاعها للدراسة المتأنية والنقاش المجتمعي الجاد.
القضايا ذات المردود الاقتصادي المجزي المباشر التي تم الإتفاق حولها والتي نود إلقاء نظرة متأنية عليها فيما يلي هي: التجارة، النفط، والدين الخارجي المضمن في اتفاقية «القضايا الاقتصادية «.
ملف التجارة
لا أعتقد أن هناك خلافا في المراجع الاقتصادية حول فوائد التبادل التجاري بين الدول وتأثيره الإيجابي في دعم النمو الاقتصادي عن طريق التوسع في الإنتاج المحلي بإستغلال الطاقات الإنتاجية المعطلة أو الفائضة، خاصة في القطاعات الحيوبة كالزراعة والصناعة، ما يؤدي بدوره إلى تحسين أوضاع البطالة والفقر وفرص الإستثمار وأداء الموازنة العامة وميزان المدفوعات. لذلك يعتبر التبادل التجاري واحدا من أهم عوامل تعزيز الثقة والمصداقية بين الدول. والتجارة مع دولة الجنوب في مصلحة السودان أولا وأخيرا لأنها تعطي السودان بعدا تجاريا متقدما يتعدي الحدود الجغرافية للجنوب. لذلك كان من غير المفهوم في ظل أجواء التفاؤل التي صاحبت الإتفاق تحويل ملف التجارة إلى لجان بدلا من إعادة فتح القنوات التجارية فورا مع الجنوب حتى ولو من طرف واحد. لكن يبدو أن تكرار النصح قد يجد أحيانا أذنا صاغية، فالتوجيهات الرئاسية الأخيرة لإعادة فتح كافة القنوات التجارية مع الجنوب تعتبر نموذجا حيا وفهما ناضجا للدعوات المتكررة لإدراك الدور الحيوي للتجارة في التواصل والتقدم الاقتصادي بين الشعوب. و الآن تبقي العبرة في التنفيذ على أمل أن تتغلب المصلحة القومية على المصالح الفردية والعقائدية والفئوية الضيقة.
نسبة لتشابه الأنماط الإستهلاكية في السودان وجنوب السودان، خاصة في مجال الغذاء، فالتبادل التجاري بين الدولتين من المتوقع أن يدر على السودان حوالي 2,5 مليار دولار في العام في شكل صادرات مقابل حوالي نصف مليار دولار للجنوب، ما يعني فائض ميزان تجاري لصالح السودان في حدود ملياري دولار ودعم لموارد النقد الأجنبي القومية بنفس القدر. لكن هناك عدة إعتبارات لابد للشمال أن يضعها في الحسبان فيما يتعلق بموضوع التجارة مع الجنوب.
أولا : في ظل عدم التوازن بين الطلب والعرض المحليين المنعكس حاليا في معدلات التضخم العالية، ففتح أبوب التجارة مع الجنوب قد يؤدي إلى المزيد من التضخم في المدى القصير قبل أن تتم عملية تكيف العرض مع الطلب في المدى المتوسط، ما يجعل كبح جماح غلاء الأسعار قضية محورية يجب وضعها في أول سلم فقه أولويات صناع القرار لاستعادة استدامة النمو الاقتصادي وضمان انسياب التجارة.
ثانيا : جني الفوائد المرجوة من التجارة يعتمد على السرعة في تحريك عجلتها التي كلما تأخر دورانها كلما حرم الاقتصاد السوداني من تأثيرها الإيجابي في المدى القصير وربما في المدى الطويل أيضا إذا طال التأخير ودخلت دول أخرى منافسة أسواق الجنوب وتمددت فيها. لذلك، فإن سارت الأمور وفق إتفاقية التجارة الإطارية، فقد نسمع، ولردح من الزمان، الكثير من الطحن وقليل من العجين إن لم تنفذ التوجيهات الرئاسية المذكورة أعلاه على وجه السرعة.
ملف النفط
إتفاقية النفط هي الوحيدة من بين إتفاقيات التعاون التي يمكن إعتبارها شاملة فيما يتعلق بالتفاصيل المالية والفنية والإدارية اللازمة للتنفيذ مثل الرسوم والتعريفات المتفق عليها، كيفية الدفع والتحويل والضمانات المصاحبة لذلك،و الفترة الزمنية لسريان الإتفاق، والإجراءات الفنية المطلوبة لبدء وتواصل ضخ النفط من الجنوب. لكن إعادة الضخ تحتاج لمجهود فني كبير نسبة للعشوائية التي أغلقت بها آبار النفط أثناء الإشتباكات الحدودية مع السودان في الربع الثاني من هذا العام. بالإضافة إلى ذلك، فإن ضخ النفط للتصدير بعد إجراء المعالجات الفنية اللازمة يتطلب ملئ الأنابيب بنحو 3,5 ملايين برميل من النفط الخام، ما يعني أن جنوب السودان قد يحتاج إلى ثلاثة أو أربعة أشهر قبل البدء في ضخ نفطه الخام عبر الخطوط الناقلة لمراكز التجميع والمعالجة في الجبلين و هجليج.
الجدول أدناه يوضح الرسوم والتعريفات التي توافق عليها الطرفان والمردود المالي المتوقع من ذلك والمقدر بحوالي 722 مليون دولار في العام على أساس 207 آلاف برميل في اليوم هي حصة الجنوب في إجمالي إنتاج النفط السوداني حسب المعلومات المتوافرة حتى أكتوبر 2011ن ومتوسط تعريفات نقل ورسوم معالجة وعبور تبلغ ما يعادل 9,55 دولارات للبرميل مقارنة مع 22 دولارا للبرميل أي 1,7 مليار دولار في السنة طالبت بها حكومة السودان في آخر مقترحاتها في المفاوضات.
(1) حسب الإتفاقية، تعتبر هذه الرسوم «رسوما خاصة»، أي إكرامية نظرا للعلاقة الخاصة بين البلدين لأن دولة الجنوب رفضت مبدأ فرض رسوم عبور على نفطها من قبل حكومة السودان.
بالإضافة إلى ذلك ، فقد التزمت حكومة جنوب السودان أن تحول لحكومة السودان مبلغ 3,028 مليارات دولار تحسب بمعدل 15 دولارا لكل برميل يصل ميناء الصادر «كترتيبات مالية انتقالية» لتعويضها عن فاقد عائد الإيرادات النفطية نتيجة لإنفصال الجنوب. يتم دفع هذا المبلغ والرسوم والتعريفات المتفق عليها خلال 40 يوما من تاريخ إصدار سندات الشحن مع الإحتفاظ للسودان بحقه في أخذ أي مبالغ متأخرة عينيا (حق إمتياز) بعد 15 يوما من إنتهاء فترة الأربعين يوما.
وإذا إعتبرنا أن الجنوب سيصدر كل حصته من النفط الخام، فقد يحصل السودان على 1,1 مليار دولار في العام من بداية التطبيق الفعلي لإتفاقية النفط، ما يعني أن المبلغ المحدد تحت «الترتيبات المالية الإنتقالية» قد يتم سداده في أقل من ثلاثة أعوام. إذا أضفنا إلى هذا المبلغ عائد الرسوم والتعريفات المتوقع، فإن حصيلة السودان من إتفاقية النفط قد تصل إلى أكثر من 1,8 مليار دولار في العام (جدول2). هذه الحصيلة قد ترتفع إلى 2,3 مليار دولار إذا فرضت الحكومة متوسط 10 دولارات للبرميل كتعريفات نقل ورسوم معالجة وعبور على خام نفط الشركات الأجنبية في الجنوب والمقدر بحوالي 130 ألف برميل في اليوم، علما بأن هذه الشركات قد إستعادت إستثماراتها في نفط السودان قبل الإنفصال منذ الأعوام 2004و2005. لكن كما ذكر سالفا، فإن عملية ضخ نفط الجنوب لن تبدأ قبل نهاية يناير 2013 على أحسن تقدير، بالتالي، من غير المنظور أن السودان سيشهد أي مردود مالي أو اقتصادي لاتفاقية النفط قبل شهر أبريل من العام القادم. هذا بدوره، يطرح السؤال المهم حول ماذا سيفعل صناع القرار الاقتصادي بين الآن وأبريل القادم في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية؟
لكن حتى في حالة التنفيذ الفوري للإتفاقية، فإن تأثيرها على الموازنة العامة وميزان المدفوعات وبالتالي على موارد النقد الأجنبي القومية فسيكون محدودا (جدول3). ولعل هذا هو سبب الزخم الإعلامي الذي يثيره صناع القرار والإعلام الرسمي هذه الأيام بأن موازنة العام 2013 ستبنى على أساس أن عائدات الإتفاقية ستعامل بمثابة «زيادة خير»، ما يعني ضمنيا أن موازنة العام القادم ستكون مجرد حلقة جديدة في مسلسل معاناة المواطن والتدهور الاقتصادي. فكما يبين جدول3، فإن نصيب الموازنة العامة من عائد إتفاقية النفط سيكون في حدود 626 مليون دولار في العام، ما يعادل حوالي 2,7 مليار جنيه بالسعر الرسمي (4,4 جنيهات للدولار)، أي ما يساوي 31% من العجز الكلي في موازنة العام 2012 المعدلة (أو المرقعة في واقع الأمر)، علما بأن هذا المبلغ ينخفض إلى 67 مليون دولار فقط بعد سداد التحويلات الإنتقالية في حوالي 3 أعوام. ورغم أن هذا قد يساعد بعض الشئ في سد فجوة العجز الهائل، إلا أنه ليس حلا ولا بديلا للإصلاح المالي المطلوب للوصول بالوضع المالي للدولة المترهلة إلى توازن مستدام بين الإنفاق الحكومي الجاري وإجمالي الإيرادات العامة.
رسوم العبور، والتي قد تصل إلى 76 مليون دولار في العام، هي ضريبة إمتياز (Royalty) تفرض على مرور النفط الخام عبر أراضي سيادية وبالتالي فإن عائدها يمثل إيرادا للخزينة العامة للدولة (جدول3). أما تعريفات النقل ورسوم المعالجة المقدرة بحوالي 650 مليون دولار فهي إيرادات لشركات ومؤسسات النفط في السودان. بالنسبة للتحويلات الإنتقالية المقدرة بحوالي 1,1 في العام، هي الأخرى تمثل إيرادا للدولة، لكن إفترضنا تقسيمها مناصفة بين الخزينة العامة وشركات النفط الأجنبية في السودان، التي تستغل الحكومة نصيبها في خام نفط الشمال (حوالي 60 ألف برميل في اليوم) لسد الفجوة النفطية المحلية على أمل أن تصل الحكومة إلى إتفاق مع هذه الشركات لإعادة جدولة ديونها، المتوقع أن تكون قد وصلت لأكثر من 1,5 مليار دولار عند نهاية العام الأول للانفصال ، مقابل الحصول على 50%، أي 550 مليون دولار في السنة من التحويلات الإنتقالية للإيفاء بحوالي ثلث الديون الجديدة في مرحلة تطبيق إتفاقية النفط. هذا يعني أن إجمالي ديون شركات النفط الأجنبية على الحكومة قد تصل إلى أكثر من 4,5 مليارات دولار عند نهاية فترة التحويلات الإنتقالية.
أما ميزان المدفوعات فمن المتوقع هو الآخر أن يشهد تحسنا بمقدار العائد للخزينة العامة وشركات النفط المالية الذي قد يصل إلى 1,3 مليار دولار في العام. التحسن في ميزان المدفوعات سينعكس إيجابا بنفس القدر على موارد النقد الأجنبي للبلاد (الإحتياطي) مما قد يساعد في حدوث إستقرار نسبي في أسعار الصرف قبل أن يهبط إجمالي العائد إلى أقل من 750 مليون دولار بعد نهاية سداد التحويلات الإنتقالية. وإذا أخذنا بتقرير وزارة المالية عن الأداء المالي للنصف الأول من موازنة العام 2012 بأن عجز ميزان المدفوعات وصل إلى 3,6 مليارات دولار وإعتبرنا هذا معيارا للعام كله، فستكون هناك فجوة دولارية في موارد النقد الأجنبي قد تصل إلى 2,3 مليار. وهذه الفجوة في موارد النقد الأجنبي قد ترتفع إلى 4,3 مليارات إذا وضعنا في الإعتبار الطلب على موارد النقد الأجنبي الذي لا تعكسه الإحصائيات الرسمية (تهريب الأرباح ورؤوس الأموال والأموال العامة المنهوبة عن طريق الفساد أو نفخ فواتير الوارد، السياحة العلاجية والسفر، تجارة الشنطة، التحوط ضد إنهيار العملة الوطنية ...إلخ) والمقدر بتحفظ شديد بحوالي 2 مليار دولار في العام. هذا يعني بإختصار أن فجوة النقد الأجنبي وتقلبات سعر الصرف ستظل هاجسا حتى بعد تنفيذ اتفاقية النفط. وقد يكون فتح أبواب التعاون التجاري أسهل وأسرع الخطوات كجزء من الحل ، لكن إصلاح السياسات ، والمؤسسات والكفاءات يبقى هو مفتاح الحل.
ملف الديون الخارجية
حسب تقديرات صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن تصل ديون السودان الخارجية إلى حوالي 44 مليار دولار بنهاية العام 2012، أي بزيادة 31 مليار دولار (238%) منذ عام 1989 حيث بلغ فيه إجمالي الدين الخارجي 13 مليار دولار. وإذا وضعنا في الإعتبار ديون شركات النفط الأجنبية المتوقعة على الحكومة، والتي تم ذكرها سالفا، والديون الصينية المعاد جدولتها لعام 2017 والبالغ قدرها 7 مليارات دولار، فقد يواجه السودان في عام 2017 تحدي أعباء ديون خارجية جديدة قد تصل إلى 12 مليار دولار بالإضافة إلى ديونه الخارجية الحالية التي قد ترتفع حينها إلى أكثر من 50 مليار دولار. الإرتفاع المتسارع في حجم المديونية يعكس التراكم المستمر في متأخرات الديون المقدرة بحوالي 41 مليارا ، خاصة للدائنين من أعضاء وغير أعضاء نادي باريس، الذي ضمن إهتماماته معالجة ديون الدول الصناعية الغربية الكبرى على الدول الأخرى. وأهمية ملف الديون الخارجية يكمن في أن التعثر في هذه الديون، يمثل عائقا كبيرا في التعامل المالي والاقتصادي بين الدول المدينة والدول والمؤسسات الدائنة ما يحرم البلدان المدينة من تدفق موارد مالية جديدة مهمة وضرورية لتدوير العجلة الاقتصادية والتنموية. وللأسف ظلت مشكلة ديون السودان الخارجية تتفاقم منذ بدايتها في عام 1984 وحتى الآن دون أن تحظى بالإهتمام اللازم من قبل صناع القرار السياسي والاقتصادي الذين أصبحوا يفضلون الهروب إلى الأمام بدلا عن مواجهة الحقائق والحلول الصعبة بعد أن تحولت المشكلة إلى معضلة.
اتفاقية «القضايا الاقتصادية « هي الأخرى لم تقدم شيئا جديدا لمعالجة القضية لأنها تدور في نفس الحلقة المفرغة التي ظل يدور فيها صناع القرار. وفيما يلي سنستعرض ونعلق لاحقا على النصوص الجوهرية في الإتفاقية المتعلقة بمسألة ديون السودان الخارجية:
* إستمرار السودان في الإحتفاظ بالديون والأصول والخصوم الخارجية ? «الخيار صفر». (المادة 30101)
* تبني «إستراتيجية مشتركة لتوعية الدائنين» للحصول منهم على تأكيد بإطفاء كامل لديون السودان الخارجية (المادة 30102)، تتضمن «حشد الدول الخارجية والمؤسسات الدولية لقيادة حملة دولية لإعفاء ديون السودان» (المادة 30103).
* الإلتزام المشترك «في المادة 30102» يجب عرضه لضمان
- إحتمال تقاسم الديون الخارجية والأصول (المادة 302).
- إذا لم يتحقق «ضمان الإلتزام المشترك» بخصوص إطفاء الدائنين لديون السودان الخارجية، «يجب الرجوع للخيار صفر» المذكور أعلاه.
- في حال إتفق الطرفان على «وقف تنفيذ الخيار صفر» يجب على الطرفين «الدخول في مفاوضات حسن النوايا للوصول لنتيجة بشأن ديون وأصول السودان الخارجية... (المادة 30202).
* يكون «الطرفان بالإضافة للجنة الإتحاد الأفريقي وفدا لبحث المساعدة من المجتمع الدولي» (المادة 60102) بهدف:
(أ?) «الحصول على مساهمة مالية تسد ثلث الأموال التي فقدتها جمهورية السودان نتيجة فقدانها لعائدات النفط».
(ب?) «تمويل لدعم جمهورية جنوب السودان لإنشاء برامج ومشاريع لمقابلة تحديات التنمية العاجلة».
(ت?) «إعفاء مباشر للديون الخارجية لجمهورية السودان بما فيها إعفاءات الديون التي نصت عليها مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون».
(ث?) «المساعدة في إلغاء العقوبات الاقتصادية على جمهورية السودان « .
كما ذكرنا سالفا، فمن الواضح أن الاتفاقية لا تقدم جديدا بل تذهب أبعد من ذلك لتجاهلها عن قصد أو جهل الآليات والإجراءات المتبعة عالميا لتخفيف عبء الديون، وتبني سياسة إعادة إكتشاف العجلة فوضع الإستراتيجيات وتكوين الوفود المشتركة والأسفار حول العالم يعني المزيد من ضياع للوقت والموارد الشحيحة دون فائدة ترجى بينما تزداد تعقيدات المديونية والمقدرة على معالجتها في المستقبل. لهذا فالاتفاقية لا تنصف السودان في تحمل عبء الديون ولا تساعد في كيفية معالجة تلك الديون بصورة جادة وعادلة. إن «الخيار صفر» يعني، رغم اللف والدوران، أن الديون الخارجية ستظل عبئا سودانيا في نهاية المطاف وإن طال السفر. فعبارات «توعية الدائنين» و»حشد الدول الخارجية» و»إحتمال تقاسم الديون الخارجية» و» مفاوضات حسن النوايا» هي مجرد مسكنات فاقدة المفعول لأنه ليس هناك نص واضح ملزم بأن الديون ستقسم بين الدولتين. أما الدائنون والدول الخارجية المعنية، فهم أدرى بشعاب معالجة الديون ولا يحتاجون لوفد هو نفسه في حاجة إلى «توعية» بقضايا المديونيات الخارجية.
و لا أدري كيف سيغير وفد الشتات المقترح من هذا الوضع. لهذا فمن المرجح أن الوفد سيكون أكثر نجاحا في حشد الدعم لتنمية الجنوب، وربما يكون هذا هو الهدف الأساسي من تكوينه. أما الحديث عن «إعفاءات الديون التي نصت عليها مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون»، فيحتوي على سوء فهم واضح لهذه المبادرة خاصة في وضع السودان.
تهدف مبادرة»الهيبك» (HIPC: Heavily Indebted Poor Countries Debt Initiative) لمساعدة الدول التي لها سجل حافل في مجال الإصلاح الاقتصادي لتخفيف عبء ديونها إلى مستويات مستدامة شريطة إزالة هذه الدول لجميع متأخراتها للدائنين الدوليين، خاصة صندوق النقد والبنك الدوليين. وهذه أولى الصعاب التي لابد للسودان من عبورها قبل أن يفكر في أي معابر أخرى.
عملية تسوية متأخرات السودان للصندوق، البالغ مقدارها حوالي 1,5 مليار دولار حتى نهاية يونيو 2012 ، تحتاج إلى أن تبدأ بخطوات رئيسية تتم في تسلسل ملائم. وأول خطوة هي معرفة جاهزية المجلس التنفيذي لإعتبار ما طبقه السودان حتى الآن من إصلاحات اقتصادية في إطار برامج المراقبة بواسطة خبراء الصندوق، كافيا لسجل أداء إيجابي لتسوية المتأخرات، عن طريق برنامج تراكم الحقوق المعروف باسم «الراب» (RAP ? Rights Accumulation Program) هذا البرنامج هو الآلية التقليدية لتسوية تأخرات الصندوق ذات الحجم الكبير لدى الدول الأعضاء مثل السودان. وقد بدأ العمل به في عام 1990 حيث حددت أحقية الاستفادة منه لإحدى عشرة دولة من الأعضاء تخرجت جميعها ما عدا السودان والصومال. لذلك، يظل برنامج الحقوق المتراكمة خيارا مهما لتسوية متأخرات السودان في إطار إستراتيجية الصندوق لمعالجة المتأخرات. لهذا مد العمر الزمني للبرنامج حتى نهاية أغسطس عام 2015 بواسطة المجلس التنفيذي للصندوق في اجتماعه يوم 20/8/2012 ، على أمل أن يستفيد منه السودان والصومال!
في إطار برنامج «الراب»، تحصل الدول ذات الأداء الإصلاحي الجيد على «حقوق»، أي نقاط ذات قيم مالية محددة، تسمح لها بالعودة للإستفادة من موارد الصندوق في أية اتفاقية لاحقة. وهذه الحقوق لابد أن تجمع ? على الأقل خلال ثلاث سنوات ? بقدر يساوي حجم المتأخرات. بعد ذلك تبذل الجهود لإيجاد مجموعة من الدائنين لتقديم قرض معبري (Bridge Loan) بحجم متأخرات الدين يدفع مباشرة للصندوق مقابل تسوية المتأخرات. وفي نفس لحظة التسوية، يقوم الصندوق بإعادة المبلغ للدائنين ، وتحويل المتأخرات إلى قرض جديد لدولة المتأخرات. هذه العملية تتم في خلال 24 ساعة فقط يبدأ الدين بعدها من جديد وبشروط وفترة سماح جديدة.
لهذا فقبل إعتبار برنامج «الراب» في حالة السودان، فلا بد من العمل الدؤوب لتكوين مجموعة دعم من الدائنين للمساعدة في تحضير التمويل المعبري المطلوب لتسوية متأخرات السودان، ولتقديم الضمانات المطلوبة لبرنامج «الراب» وما يليه من برنامج. والمرشحون الطبيعيون في هذه الحالة هم دائنو السودان الكبار من الدول كأمريكا وبريطانيا والمانحون، خاصة الدائنين الإقليميين وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية والكويت. لكن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أنه من حق المجلس التنفيذي أن يتجاوز عملية «الراب» بأكملها، ويتحرك مباشرة من برنامج يراقبه خبراء الصندوق إلى تسوية المتأخرات. لكن مثل هذا القرار لا يعفي بالضرورة من الحاجة لتأمين الموارد المطلوبة لأي برنامج لاحق. كجزء من ضمانات التمويل، يجب على دائني نادي باريس والدائنين الرئيسيين للسودان التأكيد على استعدادهم لدعم السودان، لخفض عبء ديونه بواسطة آليات خفض الدين المتاحة، بما في ذلك مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون المعروفة باسم «الهيبك».
في الختام، سوف يحتاج السودان عاجلا أو آجلا إلى إعادة بناء جسور علاقاته السياسية والاقتصادية مع كثير من الدول المؤثرة داخل الصندوق ? وبالذات الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا ? بهدف خلق مجموعة دعم مؤثرة للمساعدة في معالجة ديونه الخارجية، بالتحضير لقرض معبري والضمانات التمويلية، بما في ذلك تأكيد نادي باريس، بأن السودان سيستفيد من البرامج التقليدية لتخفيف عبء المديونية ومن مبادرة «الهيبك». لكن هذا يتطلب أن يسرع أصحاب القرار - إن كانوا يسمعون ? في وضع وتنفيذ إستراتيجية تفاوضية شاملة لمعالجة مشكلة الديون الخارجية للبلاد، في ضوء وتيرة النمو المتسارعة لهذه الديون حتى لا تصبح عبئا ثقيلا على رفاهية الأجيال القادمة. أما إذا إستمرت قضية المديونية الخارجية في المسار الحلزوني السلبي، فقد يجد السودان نفسه، وفي وقت ليس بالبعيد، في نفق مظلم آخر أكثر تعقيدا وأشد إيلاما من كل الأنفاق التي أدخل فيها حتى الآن.
* خبير اقتصادي بصندوق النقد والبنك الدوليين سابقا ، ووزير سابق للمالية و الاقتصاد الوطني بالسودان ، حالياً مستشار اقتصادي ومالي لعدة منظمات مالية وتنموية عالمية وإقليمية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.