هجمت على أمدرمان وأنا فى الدويم، انتزعتني من جغرافية النيل الابيض، ووضعتني على مقاهيها الحبيبة حيث (بانت) كواكبها يضيق بها المدار، مثلما يقول صاحب (عسل الوسامة) الاستاذ الكتيابي فى رثائه للأريب على المك وهو يصور حزن هذه المدينة الرؤوم على فقدنا الكبير (هوت عمم لهول نعي صخر وأفلت من تماضرها الخمار)، بالامس سعى على المك بيننا بإبداعه وروحه وشحمه ولحمه، جاءنا محمولا على ذاكرة حفية وسدتنا سيرته الوثيرة فى تلكم الليلة ، فذكرتنا وأوسعتنا شجنا وحزنا، لكنها بذات القدر أمتعتنا وعلمتنا أن الإنسان قد يعيش الى الأبد بعد موته وهكذا ظل على.. الأول من أمس وفى سهرة ثاني أيام العيد، كان الزميل مصعب الصاوي يستدعي التاريخ عبر شاشة النيل الأزرق ، يستحضر روح عاشق أم درمان على المك، وينثر أنفاس الرحلة على تفاصيل تلكم الأمسية الأنيقة، حجته فيما يفعل فرادة السرد، واستثنائية الذاكرة الفوتغرافية وبراعة الطاقة التصويرية للأستاذ الكبير كمال الجزولي. كمال حمل المشاهدين عبر كبسولة الزمن وهو يعيد عقارب الساعة الى دنيا بتوقيت على المك حيث (الطاقية الخضراء والجلابية الدمورية)، المقاهي والروادي والاحتفاء بالإذاعة التى أصبحت وطنا تمنح جنسية أم درمان لمنتسبيها، البيوت آنذاك مشبعة ب (ريحة الطين)، والأيام تدوزنها حنجرة أبوداؤوود التى شدت بالأمس على لهاة عود الرائع مصطفى السني،السهرة ازدادت طلاقة وتطريبا وانسابت فى آذان المشاهدين سيلا من شهد الأيام المنسية، والسني يفاجئهم ب(غصن الرياض المايد) لمساح مدني::(يا خُلاصة الحواري المن جِنان وخوالد - حُسنك ليك يدوم، لا أم تلِد لا والد - راسخ في ظلال مجدو التليد التالد- يا اللابس العفاف حلية وعقود وقلايد. وخلي العيش حرام لابوصلاح من ألحان كرومة و(زرعوك فى قلبي يا من كساني شجون) للأمي ومن ألحان كرومة، و(دمعي الاتشتت) لفاطمة خميس وفلق الصباح ومساء الخير يا الأمير.. مصعب الصاوي عبر باشرعته الى عوالم خفية فى تاريخ على المك وام درمان، واستطاع ان يمنح المشاهدين جواز الارتياح بعد ان راهنوا على السهرة وهم (مخنوقين) من سذاجة ما يحدث فى قنواتنا الفضائية من تسطيح لا يراعي الذوق العام ولايمنح الراسخين فى المزاج حقهم من الإمتاع، بالأمس كان الغناء فى خدمة الفكرة ، لا للطرب او تزجية الوقت، لوقت طويل ظل الغناء فاقدا للسند والهوية تنافقه الأفكار،يدخل على الناس بلا استئذان فتستقبله الأجساد وتعافه الروح. الجزولي صاحب مفردة متماسكة وإحساس مختلف بفرادة التجارب الانسانية وفوق هذا وذاك فهو مسكون بالإبداع وشاهد على عصر (النهضة) فى حياة السودانيين عندما كانت الحياة تنضح إبداعا،استطاع مصعب وكمال والجزولي ان يمنحوا المكتبة السودانية مادة توثيقية جديرة بالاحترام حملت مشهد حبيبا من حياة طاعمة لمبدعين افتقدتهم الحياة السودانية كثيرا، شكرا كمال الجزولي، ومصعب الصاوي ومصطفى السني.