لفت نظري في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدةو وفي نيويورك بل وفي أمريكا بصورة عامة، المراعاة الشديدة والاحترام الكبير للتنوع..ليس هناك من يكثر التحديق، ويرفع حاجب الدهشة لزي من الأزياء، أو لسلوك من سلوك البشر الذين تحتويهم أمريكا. تبدو هذه الملاحظة شديدة الوضوح في نيويورك،لا فعل أو سلوك محرم ما لم يصطدم بالقانون..وإذا كنت مختلفاً في هيئتك وزيك فلن تجد من يرمقك بنظرة تعجب، العكس تماماً، ربما رُمقت بنظرة إعجاب.. الاختلاف هناك يدعو إلى الإعجاب والاحتفاء..إنهم مولعون ب(المختلف) في كل شيء، ويبدو أن هذا أحد الأسباب التي جعلت الإنسان الغربي يتقدم خطوات واسعة في عالم الابتكار وارتياد المجهول. الإنسان الغربي في الغالب لا يألف المألوف، يريد الجديد في كل شيء، في الملبس في أجهزة الموبايل، في الكمبيوتر، في الأفلام، في النجوم، في الأخبار، ومن مقولات الأمريكيين المشهورة(ليس هناك أقدم من أخبار الأمس)..صادفت سودانياً يريد ابنه الالتحاق بجامعة هارفارد في مجال تقنية المعلومات، العبارة الترحيبية التي قيلت له، هو أن الجامعة لا تريد الأذكياء فهم كثيرون, ولكنها تريد العباقرة، أوالمجانين في تقنية المعلومات(كما هي عبارتهم). مراعاة الاختلاف بل والاحتفاء به، تجعل الزائر إلى نيويورك يلحظ بوضوح أن الزي الإسلامي للنساء-مثلاً- لم يختف بفعل طوفان الجسد شبه العاري الذي ترتديه غالب (النيويوركيات)، بل حتى النقاب كان حاضراً في أشهر مناطق نيويورك(تايمز سكوير)، وهو ميدان حافل وحاشد بعوالم الميديا..وفي ذات الميدان اتخذ البعض من غرابة ملبسه وسيلة مبتكرة للتكسب والحصول على المال من بعض المارة الذين يبذلون بعض الدولارات من أجل التقاط صورة مع أصحاب الأزياء الغريبة. لاحظت أن عدداً من الدبلوماسيات المسلمات يحضرن إلى أعمال اللجان في الجمعية العامة للأمم المتحدة وهن في كامل زيهن الإسلامي، ونقل لي أحد الدبلوماسيين السودانيين أن هذا المنظر كان من العسير رؤيته في التسعينات وما قبلها من سنوات القرن الماضي، ربما كان السبب- وهذا من تحليلي الخاص- هو ازدياد الوعي لدى الكثيرين بهويتهم الدينية والثقافية والاعتزاز بها بدلاً من الخجل منها، فكان الوعي عاملاً مهماً في بروز هذه الظاهرة. مبنى الأممالمتحدة المنيف يضم إلى جانب تنوعه البشري مجموعة من الصور والأشياء التاريخية التي توثق لسنوات مرة عاشتها البشرية مثقلة بالحروب والمجاعات والكوارث، شعرت ببعض أسف وأسى وأنا أرى صور دارفور شاخصة في ردهات المبنى الأممي، وليس بعيداً منها صور موثقة لعملية شريان الحياة التي كانت تقدم الإغاثة للجنوبيين(قبل الانفصال). داخل مجلس الأمن انتابني نوع من الأهمية لشخصي الضعيف(أقول هذا على سبيل المزاح) عندما دلفت إلى القاعة الرئيسية التي ينعقد فيها اجتماع مجلس الأمن، وطافت بذهني صور شتى لزعماء العالم الذين شهدت هذه القاعة مداولاتهم ومساجلاتهم، قوتهم وانكسارهم، خروجهم عن المألوف وخضوعهم له..صورة خرتشوف الزعيم السوفيتي الشهير وهو يضرب على المنضدة بحذائه، وقيل - والعهدة على الراوي- إن الرجل كان ثملاً عندما فعل ذلك، ويبدو أن هذه الرواية -ان صحت- تستند إلى أن خورتشوف مارس هوايته المحببة بالإفراط في الشرب. وشعرت بتضخم الشخصية أكثر(وهذا على سبيل المزاح أيضا)، عندما جلست في مقعد رئيس الجلسة في مجلس الأمن، ومرة أخرى عندما وقفت خلف المايكرفون الذي يقف خلفه عادة مندوبو الدول دائمة العضوية وهو يجيبون عن أسئلة الصحافيين، وتذكرت سوزان رايس وهي تبدي استعدادها للإجابة عن سؤالين فقط من أسئلة الصحافيين كما درجت أن تفعل..وعلى ذكر سوزان رايس شاهدت فتاة صغيرة السن في أوائل العشرينات من عمرها وهي تمثل بلادها (أمريكا) في إحدى اللجان بالأممالمتحدة، ولولا أن (الواسطة) لا محل لها من الإعراب في مثل هذه المناصب بالولاياتالمتحدة، لقلت لكم إن سوزان رايس الحقت أختها في وظيفة دبلوماسية بالبعثة الدائمة. المنصة الرئيسية في المنصة الرئيسية لقاعة الجمعية العامة(حيث سارعت للوقوف والتقاط الصور التذكارية) تداعت إلى ذهني صورة الرئيس الراحل معمر القذافي وهو يخاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة خطاباً مطولا مملا، ثم انتهى به المطاف الى ان يخرج عن المألوف - كعادته- ويقذف بميثاق الاممالمتحدة في الهواء قبل ان تستقر الاوراق على الارض.. الدبلوماسيون الذين شهدوا ما فعله القذافي يتحدثون عن ان علي التريكي وزير خارجية ليبيا الأسبق والذي رأس الجمعية العامة للأمم المتحدة وقتذاك، مارس نوعاً من التواطؤ أو الخضوع لزعيمه حينما أتاح له وقتا طويلا ولم يجرؤ على مقاطعته. منظر لافت منظر ما، على الجدار الداخلي لمبنى الاممالمتحدة شدني أكثر من أي شيء آخر..كان المنظر عبارة عن بقايا ملابس لطفل ياباني قتل بسبب القاء القنبلة النووية الأمريكية على إحدى المدينتين اليابانيتين (هيروشيما) و(نجازاكي)..ومن الغرائب أن الاسم الكودي الذي اطلقه الأمريكان على قنبلة هيروشيما هو(الولد الصغير) فيما اطلق اسم(الرجل البدين) على قنبلة ناجازاكي. ومن مفارقات الأقدار ايضا أن الاسم السري لمشروع تصنيع القنبلة النووية التي القيت على مدينتي هيروشيما ونجازاكي هو(مشروع مانهاتن) ومن المعروف أن منطقة مانهاتن بنيويورك تحتضن مبنى الأممالمتحدة، ، وغني عن القول إنه تم اختبار أولي للقنبلة في منطقة جرداء بإحدى الولاياتالامريكية قبل القائها على هيروشيما ونجازاكي. منذ أن القت الولاياتالمتحدةالامريكية القنبلة النووية أُلقيت مهابتها في قلوب العالم، وفرضت نفوذها وسيطرتها على الاممالمتحدة وعلى مجلس الأمن، وانهت الحرب العالمية الثانية بفعل عسكري قاس اختلف الناس حوله، فريق يرى ان إلقاء القنبلة النووية كان امراً ضروريا اوقف سفك مزيد من الدماء ووضع حدا للحرب، وفريق آخر يرى ان امريكا ارادت أن ترسل رسالة الى كل العالم تخبر به عن المدى الذي وصلته في السطوة وشدة البأس. ازدياد الوعي بالعودة إلى ازدياد الوعي بالهوية الثقافية والدينية فقد كانت دهشتي كبيرة حينما دعاني الدبلوماسي الشاب مصطفى الشريف إلى اداء صلاة الجمعة داخل مباني الأممالمتحدة، اجبت طلبه على الفور، وتركت رخصة السفر التي تسقط عني أداء الجمعة، وذهبت الى إحدى القاعات التي امتلأت عن آخرها بالمصلين، والتماساً للدقة اقول والمصليات ايضا. لم اسأل كثيرا عن ظروف وملابسات تخصيص قاعة في الاممالمتحدة لأداء صلاة الجمعة، هل كان بمثابرة من الدبلوماسيين المسلمين وتحت ضغط وإلحاح- أم انه كان بفعل ذلك- وأيضا- إدراكا من ادارة المنظمة الاممية بأهمية التيسير على المسلمين لأداء شعائرهم؟. وهل فعلت الاممالمتحدة ذات الشيء للدبلوماسيين المسيحيين واليهود والبوذيين..الخ؟ استبعدت هذه الفرضية الأخيرة من واقع أن اصحاب هذه الديانات يؤدون صلواتهم عادة في أماكن مخصصة، فليس كل الاماكن عندهم تصلح للصلاة..وعندها تقافزت الى ذهني معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله(اعطيت خمسا لم يعطهن أحد من قبلي...ومنها: وجعلت لي الارض مسجداً وطهوراً). ثقافة اقتناء الكلاب الأمريكيون مولعون باقتناء الكلاب، وكنتيجة حتمية لهذا الولع انشئت المستشفيات الضخمة والمحلات التجارية الكبرى للاعتناء بالكلاب، وقد دفعني فضولي لدخول أحد المحلات في نيويورك خاص بالحيوانات الأليفة. الكلب هناك يحتل مكانة متقدمة في أجندة اهتمام المواطن الأمريكي، آلاف الدولارات تنفق من اجل اقتناء كلب، والآلاف تنفق من أجل تدريبه، ومثلها من اجل علاجه، وأكثر من ذلك بكثير قد يوهب للكلب عندما يموت صاحبه ويكتب في وصيته انه وهب ثروته لكلبه. كنت أسأل صديقي الوزير المفوض محمد صغيرون: لماذا ينفق الغربيون كل هذه الأموال من أجل الكلاب؟ لماذا لا يتبرعون بهذا المال لصالح الناس في أفريقيا وآسيا؟.. فكان يجيبني ? بغرض إغاظتي-: وهل من المعقول أن اجتهد وأعمل(كرجل ابيض) من أجل ان ادفع هذا المال لشخص آخر في أفريقيا او آسيا خامل كسلان، كل دوره في الحياة ان يجني ثمار جهدي وتعبي؟!، ثم يضيف الوزير المفوض صغيرون: المال ماله وهو حر فيه. تفانى الأمريكيون في خدمة الكلاب، بمستشفيات راقية وأطباء متخصصين ومحلات تجارية لطعام الكلاب وزينتها، استدعى هذا التفاني دهشة ممن هم على شاكلتي، وسخرية آخرين مثل الدبلوماسي خالد محمد علي الذي كان يحاول توظيف مشهد الأمريكي وهو يمشي خلف كلبه ممسكا بحزام من الجلد قد وضعه على رقبته..كان الدبلوماسي خالد لا يرى في هذا المشهد غير حرفيته، فيرى أن الأمريكي يخدم الكلب بدلا من أن يحدث العكس.