مازلت أذكر وجهه الريان باليقين.. قبس الصلاح يمنحه وضاءة العارفين.. دموع المتبتلين تشق شلوخه (الرويانة) بالطيبة.. حباً في الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يبكي وينتحب شوقاً أمام (الثياب البيض شارات الرضا).. كنت أقول له: هون عليك يا (أبوي) ففي الحياة متسع لموعد قريب نزور فيه (القبة اليلوح قنديلا) فيطرق صامتاً قبل أن يربت على كتفي وهو يكملها بشجون حاج الماحي (شوقي وحساري الليلة). كان هذا قبل يومين من عبور روح (أبوي) المطمئنة إلى البرزخ بسلاسة انسياب الماء القراح من على صفحة رقراقة.. (تسرب أبوي) ثاني أيام عيد الأضحى الماضي كما العطر.. قاده ملك الموت برفق بينما كان ينتظره.. متوضئاً مصلياً يهفو ل (لمّة الجامع) وأداء فريضة العِشَاء. حمل (أبوي) الريموت ليتجوّل في التلفاز عله يلقي نظرة أخيرة على العالم.. اختار الأراضي المقدسة فغسلته الدموع من جديد لحظتها شرف ملك الموت دارنا واختار أعز ما فيها.. لم نكن نقوي على رده.. فلا رادّ لأمر الله.. ولو كان يفدي لفديناه بالنفس والولد.. كان (أبوي) مولعاً بمقاطع صلاح أحمد ابراهيم: وأمانُ الله مِنّّا يا منايا.. كلّما اشتقتِ لميمونِ المُُحيّّا ذي البشائْْر.. شرّّفي تجدينا مثلاً في الناس سائرْ.. نقهر الموتََ حياةً ومصائرْ..ْ ملك الموت كان حفياً ورؤوفاً به.. ساقه وهو في أحب مكان إليه وسط (أبنائه وأحفاده) يلاطف هذا ويمازح ذاك.. لم يحس من كان معه بلحظة (خروج الروح) فقد اختارت أن تتسرب في عجالة عن الجسد الخالي من السكر والكوليسترول (المليان) بالعافية والإيمان وحب الناس. عبر (أبوي) إلى البرزخ وأشهد الله إنني لم أر من كان متأهباً للموت مثله: قالها أحدهم ذات يوم: (البيبيت مع عبد القادر يقول القيامة بكرة): كان يقضي ليله في الصلاة والدعاء.. ويجرد (ألفيته) التي لا يعلم سرها أحد.. ينتظر الفجر وقد قرأ لوحه.. ولا ينام إلا قليلاً. في أقل من دقيقة كشف الموت ظهرنا وسلبنا القدرة على تذوق طعم الدنيا أم (بنايا قش).. ولا أظن أننا سنفعل فقد رحل (ملحها) ونفد (سكرها).. غابت النكهة إلى الأبد.. الحياة بعد (أبوي) تحصيل حاصل.. عمر محسوب في الزمن (بدل الضائع) وإن طال.. فجأة توارت الروح صعدت متوضئة ومصلية.. نقية ومعقمة.. خالية من سخف الدنيا ومتاعها الزائل. كان يبحث عن (بيت الآخرة).. يتذوّق طعم السترة.. يعجبه الصبر.. يتزوّد بالقرآن.. ويحب الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسيرته حَد البكاء.. لم نشهد له خصومة.. لم نسمعه يتحدث عن أحد إلا بالخير.. لا تجد منه سوى الطيبة.. يغمرك بحنين أسطوري.. يُزوّدك بالنصيحة في لطف.. يمنحك الثقة في ثبات، يشعرك بأن الدنيا دائماً بخير.. لعلها لم تعد بعده كذلك.. كان يصل رحمه في كل الظروف لا يأبه بعنت المواصلات ولا فاتورة الموبايل.. له مع كل شخص قصة.. محتشد بهدي الدين ومترع بإرث السودانيين.. صغير مع الأطفال يلاعبهم يغمرهم بحنو غريب.. كان يحمل في جيبه مصحفاً وحلوى.. قلماً وبعض النقود.. وأوراقاً يسعى بها بين تلامذته والخيِّرين بحثاً عن مأوى ليتيم.. أو رداً لحاجة مظلوم.. أو دعماً لبناء مسجد أو مدرسة.. لم يفعل شيئاً لنفسه وهو القادر على ذلك وقد ترامى تلاميذه في مواقع مسؤوليات متقدمة.. كل ما يأتيه لم يكن يدخل بيتنا.. كان يدخره لبيت الآخرة مثلما يقول.. فعلّمنا قيمة أن تحيا من أجل الآخرين.. كان يستمتع بذلك أيّما استمتاعٍ. نعم يوم كان مقداره سبعين مليار دمعة احتشدت في منزلنا تبكي ملاكاً كان يسعى بالحب بين الناس.. حمل التعليم هماً وقضية.. فمات ممسكاً بقلمه.. شَيّعته تهاني العيد من آلاف تلاميذ وغرس يد (عبد القادر الناظر) قبل أن يسلم روحه إلى بارئها.. فبكته المدارس (الجوامع) التي مَرّ عليها إماماً وحمامة يهدي الناس سواء السبيل في حوش بانقا و(شندي ودنقلا والكلاكلات والدامر وحتى مسجد البصاولة) في الكلاكلة شرق.. ومما لا نعلم من فجاج الأرض التي حَطّ رحله فيها إماماً ومعلماً. والله يا أبوي (من غبت ما شرقت شمس).. ضمرت جينات الفرح في حلوقنا المشروخة بالبكاء عليك.. بهتت ملامحنا التي كانت تستمد نورها من إشعاع روح طالما ظللتنا بالسماحة والجمال.. فقدنا خارطة الطريق إلى الابتسامة النابعة من (جوووة القلب).. نشهد الله أنك لم تغب عن بيتنا وطرقاتنا ومكاتبنا.. في كل مكان ذكرى وعبرة.. وثقت ملامحك في كل بوابات الدنيا وأنت العلم والملاذ الذي كان يُهدِّئ روعنا ويؤمن خوفنا.. ويبعثنا إلى الحياة مضيئين بوهج اللهفة إليك... حازم يبلغني صباح مساء أن (جدو مات) فتزجره حباب (جدو في الجنة).. حسام يسأل عنك بإلحاحٍ يقطع نياط القلوب.. أنت فينا ولكنهم غير محظوظين.. رحلت ومازالوا صغاراً.. نحتاج كثيراً إلى مدرستك في التربية.. كنا وأنت بيننا نخرج ألسنتنا للهموم ونقول: (طالما أبوي في عوجة مافي). (بعدك الأيام حزينة) لم نعد نطرب لعبد الدافع عثمان في (مَرّت الأيام) أتذكّر كيف كنت تحدثني عنها وسهرة النيل الأزرق تضعنا قبل يوم من وفاتك على ضفة مترعة بالجمال.. كان صوت فهيمة يردد: مريت ومر نعيم - كان ظني فيهو يدوم - لكنو مَرّ سريع - مثلك تماماً يا أبوي (سريع جداً) لحظة خاطفة من عُمر الزمان حيث كنت في أقل من ساعتين.. ضيفاً على الضفة الأخرى مسجياً في مقابر (حُسن الخاتمة) التي سعيت ومعك آخرون لتصديقها وتسميتها.. لم تقل لي لحظتها إنك مارست أول اصطفاء وتمييز لنفسك وحجزت (قبر ناصية).. هناك حيث الحياة الأبدية.. (أبوي)... لك الحب والرحمة.. ولنا العزاء.. (وخليها على الله) مثلما كنت توصيني دائماً.