كلما اشتدت أزمة الحكم, ظهر مقترح تشكيل حكومة انتقالية . لكن الانتقالية المقترحة هذه المرة لا تشبه انتقالية سر الختم الخليفة و انتقالية سوار الدهب و الجزولى . تلك انتقاليتان أعقبتا الإطاحة بنظامين شموليين , و هذه انتقالية تشمل النظام الحاكم الذى يختلف عن نظامى ونوفمبر بوجود تعددية بنص الدستور و إن قيدت الممارسة ببعض القوانين. تقر قوى المعارضة أن تجربتى الانتقال بعد سقوط نظامى عبود و نميري لم تكونا بالنجاح المطلوب , لقصر فترة الإعداد التى لم تمكن الأحزاب من إكمال الاستعداد للتحول الديمقراطى , كما اهتمت كل القوى السياسية بإجراء انتخابات مهملة قضايا خلافية لا تعالج بمجرد تشكيل حكومة (منتخبة) , فسارعت هذه القوى لوضع دستور انتقالى على عجل نصت فيه على ملامح ديمقراطية عامة وكل نظرها مركز على الانتخابات , و أجريت الانتخابات مرتين قبل التوصل فى الفترة الانتقالية إلى حل توافقي يعالج قضايا صعبة مثل علاقة المركز بالأطراف و علاقة الدين بالسياسة . و لذلك جاءت الحكومة المنتخبة فى العهد الديمقراطي و كأنها تجسد دكتاتورية الأغلبية . الأمر هذه المرة مختلف , فالدستور يقر التعددية و يعتمد تداول السلطة عبر الانتخابات , لكن الممارسة يصحبها تشويه لا يخفى . و يمكن اعتماد هذا الواقع الدستورى للاتفاق على إجراء انتخابات مبكرة بحيث تحمل الدورة الانتخابية القادمة بعض صفات الانتقال . و يتم ذلك بانتخابات توافقية تقوم على محاصصة مسبقة , و قد تثبت الانتخابات التى تلى المبكرة أسس المحاصصة أو تفرض الإرادة الشعبية واقعاً سياسياً جديداً يتجاوز أسس المحاصصة المؤقتة . قد تفضى المحاصصة إلى ترك النيل الأزرق و جنوب كردفان للحركة الشعبية بعد وضعها للسلاح والتزامها بكل شروط العمل السياسي السلمي , و قد ينال المؤتمر الوطني ولاية الخرطوم و الإتحادي الديمقراطى كسلا و يدير حزب الأمة جنوب دارفور على أن تدير العدل والمساواة شمال دارفور . و تأتي الفترة الانتقالية هذه المرة و كل القوى السياسية قد وطئت جمرة الحكم الحارقة , و لم يعد فى الساحة تنظيم (ينظّر) و يهيم فى عالم خيالي , فقد كان الإسلاميون آخر الحالمين الذين ظنوا حينما كانوا يعومون فى البر أن حكم السودان يحتاج لبضع بروفيسورات ابتعثهم التنظيم إلى أمريكا و بعض الدعاة الذين يؤججون العاطفة الدينية فى المساجد , فإذا بالحكم قطعة من نار يبحث أهل الحكم عن (مخارجة) منه و مخالصة , خاصة حين تنضب الموارد فلا تصرف المرتبات إلا خصماً على مال الصحة ثم تسد ثغرة الصحة من رسوم الامتحانات ثم تعقد الامتحانات من بند الكوارث . الأهم فى فترة الانتقال المقترحة أن تكون مرحلة لوضع تصور نهائي لكيفية إدارة هذا الوطن شاسع المساحة متعدد الثقافات والأعراق متفاوت الموارد و الإمكانات .