فتح اللواء طيار ركن علي بن أحمد الغامدي خزانة ذكرياته ل»المدينة» متحدثًا عن رحلة الألف ميل التى انتقلت بشاب يتيم تعب ركضًا وراء لقمة العيش الى قيادة أعلى قاعدة عسكرية في المملكة وإدارة معهد يضم الآلاف من الأجانب ويدرب عددًا من ضباط الدول المجاورة.. رحلة مليئة بفصول الطموح والإصرار يرويها اللواء الغامدي ربما -لأول مرة- وهو يشعر بالزهو والفخر من ان قطرات العرق الشريف صنعت طيارًا حربيًا من طراز فريد.. فتعالوا نسمع اللواء الغامدي وهو يحكي لنا الرحلة صانعة الرجال ونقف عند كل فصل فيها وقفة تقدير واحترام. لقمة العيش ولدت يتيم الأب حيث توفي والدي وأنا ما زلت طفلا صغيرًا في قرية العبالة ببني ظبيان في منطقة الباحة عندما لم يوجد من مقومات الحياة شيء يذكر. فلا طرق ولا سيارات ولا كهرباء أو هواتف ناهيك عن الانترنت ووسائل الاتصال الحديثة. أرادت والدتي -يرحمها الله- أن تصنع مني رجل المستقبل فأعتمد على نفسي منذ أن كنت طفلا لا يتجاوز السادسة من العمر. أرسلتني مع قافلة لأبحث عن لقمة العيش في مكة. حافي القدمين لا أملك سوى ما أستر به جسدي النحيل الصغير. مشينا سبعة أيام متواصلة مشيًا وعلى الجمال، في زمن كانت اللقمة صعبة جدًا. كانت تلك سفرتي الأولى لكي أعمل فأجلب الرزق لوالدتي. وصلنا مكة وأنا في حالة يرثى لها.. في مكة هاجمني البعوض حتى اصبحت لا أستطيع المشي على قدمي ولم أستطع تحمل العمل والحياة. وبعد اشهر رجعت إلى المنطقة كما ذهبت لا أملك شيئًا. الفراق الثاني أمام إصرار والدتي أن اعتمد على نفسي أرسلتني مرة أخرى في سفر طويل جدا هذه المرة مع قافلة وأنا في الثامنة من عمري تقريبا. وهذه السفرة لم يكن القصد منها ان أذهب إلى مكة فأعمل وإنما أذهب إلى خارج البلاد عند أخي سعيد الذي كان يعمل تاجرًا في السودان. لقد كانت جرأة عجيبة من الوالدة -يرحمها الله- أن أغادر وأنا في هذه السن ولكن لقوة الإيمان في قلبها والتوكل على الله سبب رئيس أن ترسل فلذة كبدها في هذا العمر ليخوض غمار البحار فلربما يتغير الحال إلى الأحسن. لقمة العيش كان سعيد أخي -رحمه الله- في بورت سودان وهي مدينة في السودان وكانوا يسمونها زمان (بر السودان) فقالت فرصة اني اذهب إلى السودان لكي أجلب لهم ما أستطيع حمله من أرزاق وغيرها. سافرنا ونفد الماء الذي لدينا ونحن في الطريق وأشرفنا على الهلاك، فقذفني رجال القافلة على ظهر احد الجمال خوفا على حياتي لأنني لم استطع المشي، حيث كنت أمشي حافي القدمين، وما إن شعُر الجمل بوجود ماء لأن لديه حاسة شم قوية فإذا به ينطلق مسرعا آخذا أقصر طريق من تحت شجرة كبيرة بها شوك، وانتبهت لذلك ومباشرة رميت نفسي من على ظهر الجمل فوقعت على ألأرض فشُج راسي ولاحظت حينها الجمل وهو ينطلق تحت جذع شجرة ليشرب من الماء وصرخت يوجد ماء فانطلقت نحو الماء لأضع رأسي كي أشرب منه وكنت أنا والجمل والحمار والغنم في ذلك المستنقع نشرب منه ولم اشعر بالجرح إلا بعد أن شاهدت لون الماء ينقلب إلى أحمر بسبب الجرح الغائر في رأسي. بركة الدم أخذني أصحاب القافلة ولأنه لا يوجد لديهم حقيبة اسعاف أو علاج فقد أخذوا عجينة من دقيق لديهم ووضعوها على رأسي لإيقاف نزيف الدم وعندما وصلنا إلى الطائف أخذوني للرجل الحكيم أي الطبيب ويدعونه «التمرجي» لكي يعالج إصابتي وعندما شاهدني تألم لوضعي وبدأ بإزالة قطعة القماش والعجين الذي على الجرح وجسمه يقشعر مما يرى حيث قد تخمرت العجينة واصبح صلبة على الجرح وما أن انتهى الطبيب من إزالة الخرقة صرخ من هول ما يرى فقد شاهد دودا أبيض قد تكون من البكتيريا في العجينة وعشعش في رأس العبد الفقير إلى الله وهو أنا فبدأ بتنظيفه وهو يتحدث بكلام لا أفقهه وبلغة لا أفهمها ثم وضع عليه مادة مطهرة وهي «المايكرو كروم» كما يدعونه لإيقاف النزيف وتنظيف الجرح. سيارة البريد قبل السفر بيوم قالوا لي نحن ننتظر سيارة البريد لكي تأخذنا إلى مكة ومن ثم إلى جدة كنت أسمع هذا الكلام ولا أعلم ماذا يقصدون بالسيارة وعندما سألت عنها قالوا لي هذا ليس شغلك هي سيارة مثل هذا البيت تنقلك إلى مكة ثم جدة فقط ولم يعطوني تفاصيل حولها بل انني عندما شاهدت إعصارا قادما من أسفل وادي وج في الطائف هربت إلى أقرب سفح جبل خوفا من ذلك الإعصار وإذا به سيارة البريد تشق الوادي قادمة إلينا لقد كان منظرها عجيبا وشكلها رائعا وأن أقف أراها مندهشا متأملا في هذا الكائن العجيب الذي أراه لأول مرة في حياتي وقد كانت بالفعل مثل البيت يمشي. التطور المذهل أخذوني إلى جدة وقد كانت مدينة صغيرة جدا محصورة في مكان واحد وبالمناسبة فإنني عندما أقارن بين جدة ذلك الوقت والآن بعد 60 سنة أرى تطورا مذهلا في سنين تعتبر قصيرة جدا في عمر المدن، وها نحن الآن في مقدمة العالم وصلنا إلى جدة لكي نجهز للسفر إلى السودان وهناك أيضا استوقفتني عبارات البحر والباخرة كلام لا أفهمه ولا أعرف وعندما أسأل عنه قالوا هذا ليس شغلك ستراه أمامك وصلنا حافة البحر ووجدنا سنابيك تأخذنا في عرض البحر لنركب باخرة قد اتت يوم أمس من السودان محملة بالمواشي وأفرغتها وانتظرتنا لكي نركب ظهرها بدلا من المواشي وهي عبارة عن سطح سفينة كبيرة جدا وفي مقدمته غرف مبنية فوق بعض فيها قبطان السفينة وسطحها من الحديد الفولاذ مرشوش بالماء ولا يوجد بها غرف نستلقيها فيها لتقينا حر الشمس وهواء البحر، كما لا يوجد مقاعد نجلس عليها أو حتى مقابض نتمسك بها في حال ارتفاع الموج أو انخفاضه رحلة استغرقت منا 18 ساعة في خضم البحر لتنقل إلى أقرب ميناء سوداني. الرحلة الصعبة لم نكن نشعر بالليل ولا بالنهار طوال تلك الرحلة الصعبة جدا فقد كانت السفينة تتقاذفنا بين جنباتها كأكياس من الشعير تلقينا من جانب إلى آخر فإذا ارتفع الموج قذفتنا السفينة في آخرها لأنه كما اسلفت لا يوجد مقابض نتمسك بها وإذا انخفض الموج أو مالت يمينا ويسيرا قذفتنا في كل اتجاه على سطح لا يحمينا بعد الله سوى جدارها والا اصبحنا في خبر كان وصلنا ميناء سودانيا يقال له ميناء «سواكن» ونحن في حالة يرثى لها وقد كان في استقبالنا رجل يدعى أحمد محمد أبو بكر الأفندي من عائلة الأفندي بالباحة يعمل هناك وحيث انني طفل صغير اتمنى رؤية الأطفال والتحدث معها فلقد شاءت الأقدار أن ألتقي بابنه «صابر» أحمد الأفندي الذي بعد مجيئنا من السودان وبعد دراستنا هناك تولى والده إدارة مؤسسة النقد وابنه صابر في بنك الرياض وانا أعمل مساعدا لرئيس الحسابات في البنك العربي. ميناء سواكن عند وصولنا ميناء سواكن في السودان كان الجميع يتحدث عن مدن وعن أشياء لا أعلمها تحدثوا عن مدينة بورت سودان بقولهم نريد أن نذهب لمدينة «بر السودان» «القطار» قائلين فيما بينهم «لعلنا نجد «القَطْر» لنركب فيه إلى بورت سودان»، سألتهم عن القطر فلم يجبني أحد وبعد معاناة من البحث عن الإجابة عن هذا القطر لأن الباخرة أحدثت في داخلي زلزالا عنيفا، فقلت لنفسي لعل القطر يكون أقل عنفا من هذا فنتقبلهم أو أكثر عنفا فنستعد له أخيرا أجابني أحدهم قائلا «عبارة عن غرف تمشي على الحديد» وعندما وصلنا محطة القطار إذا هو بالفعل كما يقولون عبارة عن غرف كثيرة على مسافة طويلة جدا تمشي على حديد لا اخفيك سرا أنني مستسلم لما سأواجه حيث كنت في حينها «مسيرا ولست مخيرا». حياتنا بين أمر ونهي: «افعل كذا ولا تفعل كذا». مدينة بورت سودان وعندما وصلنا مدينة بورت السودان أو «بر السودان» على قولهم وجدتها مدينة متكاملة شوارع وسيارات ومحال تجارية.. مدينة مكتظة بالناس وبالحركة لقد كانت مستعمرة من الانجليز وكان الناس لهم اسلوب جميل في الحياة كانت وجهتي لأخي سعيد «يرحمه الله» وهو والد الكابتن طيار كمال الغامدي حيث سينقلني مرافقي إليه، لقد كانت سعادته كبيرة عندما رآني رغم شدة تعامله وحرصه. القراءة والكتابة هناك في بورت سودان أدخلني أخي سعيد للخلوة لأتعلم القراءة والكتابة فقد كانت هي المربع الأول في التعليم بحيث تتعلم العلوم الشرعية والقرآن وهي قريبة من «دكان» محل تجاري لأخي سعيد وكان عبارة عن حوش به مجموعة من الطلاب يقوم على تدريسهم شخص يدعى «الفقيه» أما الوسائل المستخدمة فهو لوح خشبي يتم حرقه بالنار حتى يصبح املس ونتعلم عليه الكتابة بحيث نكتب الحروف العربية وكانت وسائل التربية هي العصا والسوط لقد كنت حينها لا أعرف أن أفرق بين الف والباء ولا الدال والذال، قرأنا في هذه الخلوة لمدة سنة كنت أمشي بين الدكان والخلوة فبعد أن افتح الدكان في الصباح الباكر أقوم بتنظيفه وتجهيزه لاستقبال الزبائن ثم أذهب مسرعا إلى الخلوة عند الفقيه لأتعلم. لقد عشت في قسوة وشدة وبعد سنة من الدراسة في الخلوة دخلت المدرسة النظامية وكانت عبارة عن مدرسة أجنبيه تمولها الحكومة الإنجليزية وتقوم بتدريس اللغة العربية والانجليزية في آن واحد حيث درست فيها المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية درسنا التاريخ والجغرافيا.. تاريخ مصر والسودان. لقد كانت اياما صعبة ومثيرة غبت عنها فترة طويلة وعند عودتي أبلغوها انني قادم ثم قالوا لها نريدك أن تتعرفي على ابنك من بين القادمين من السفر فردت عليهم بلغة مليئة بالثقة «هو الذي يجب أن يعرفني وعليه أن يأتي إلي». العودة إلى الوطن بعد أن تخرجت من المرحلة التي تعتبر أعلى من المرحلة الثانوية هنا في المملكة في حينها وإجادتي للغة الانجليزية قررنا العودة إلى أرض الوطن الغالي.. حيث رجعت من هناك وأنا في السادسة عشرة من العمر. كانت أولى محطات الوصول هي مدينة جدة التي تغيرت كثيرا في فترة وجيزة وبدأنا رحلة من نوع آخر وهو البحث عن الوظيفة هناك في شارع الملك عبدالعزيز يوجد شركة زينل وهي الوكيل المعتمد لشركة فورد وكان مدير المعرض الشاعر يحيى حسن توفيق «يحفظه الله» وتم تعييني مساعدا له براتب وقدره 350 ريالا، لقد كان ذلك الراتب له صدى كبير في نفسي فالمبلغ يعتبر في ذلك الوقت كبيرا، اتذكر حينها عندما دخل علينا في المعرض الملك فيصل -رحمه الله- وهو شاب ومعه محمد علي رضا وعلي رضا فكانوا زملاء دراسة. المفتاح الرئيسي استمررت في بيت زينل مساعدا لمدير المعرض وفي يوم من الأيام وأنا في المكتب دخل علينا ضابط برتبة لواء ويحمل خطابا رسميا بتسليمه سيارة احتفينا به كاي زبون قادم وعندما سلم لي الخطاب تحدثت باللغة الانجليزية مع مهندس يعمل في الشركة طالبا منه اكمال اجراءات اللواء وقد كان هذا المفتاح الرئيسي لتغيير الدفة في حياتي سألني الضابط من أنا، قلت له أنا شاب سعودي ثم سألني عن دراستي وحياتي واقترح علي عندما عرف مؤهلاتي أن ألتحق بوزارة الدفاع لأتخرج منها ضابطا لقد كان ينظر إلي بشيء من الاعجاب كنت حينها قابلا لأي تغيير للأفضل بالتأكيد. وظيفة افضل حصلت على وظيفة براتب أعلى في البنك العربي وذهبت من معرض زينل بدون تقديم استقالة وبدون ان أبلغهم فقد كنت اتوقع أن الأمر عادي فقد كان في البنك أحد زملاء الدراسة في السودان وعملت معه في قسم الحسابات وبعد مضي سنة دعاني مدير البنك طالبا مني أن أعود إلى الشركة التي كنت أعمل حيث قال ان الشيخ أحمد علي زينل رئيس الشركة اتصل معاتبا البنك كيف يقوم على توظيفي بدون أن اقدم استقالتي أو أنهي خدماتي، وعند ذهابي إلى الشركة عاتبني يحيى توفيق على خروجي من الشركة بدون اذنهم، ثم حولني لمدير الشركة الذي قال لي كيف تخرج بدون ان تأخذ مستحقاتك، وتفاجأت بأنهم يسلمون 360 ريالا مقابل مستحقاتي لديهم، لقد كانت قيمتها عالية حيث تساوي عندي آلاف الريالات كنت حينها تمنيت ان يقول لي ابق هنا ونعطيك راتبا أفضل حيث كان العمل في البنك شاقا رغم ارتفاع الراتب. نقلا عن «المدينة السعودية«