أحس ضابط الأمن أن وراء الرسالة التي التقطها أمر خطير، فقد كانت كلماتها مقتضبة غامضة «العصفورة فوق النخلة على ضفاف النيلين» ولم تكن العبارة سوى شفرة تنفيذ عملية أيلول الأسود، كانت الجملة عبارة عن مكالمة بين افراد الجماعة المنفذة للجريمة.. ورغم ان ضابط الامن احس بخطورة المكالمة الا انه لم يفطن الى ان العصفورة كانت تعني الاشخاص المستهدفين، اما النخلة على ضفاف النيلين فكان المقصود بها سفارة السعودية في الخرطوم.. والى حين فك شفرات الجملة كانت جماعة ايلول الاسود قد نفذت عمليتها الشهيرة. ويقول مراقبون معاصرون لتلك الأحداث أن السودان ظل لفترات طويلة من تاريخه يمثل القطر الآمن من حوادث الإغتيالات ذات الطابع السياسي المنتشر في كثير من بلدان العالم ، ولذلك يذهبون الى ان التأريخ للاغتيالات السياسية بحادثة جماعة أيلول الأسود غير دقيق، فيذكر الصحافي المعروف الاستاذ محمد سعيد محمد الحسن في وقت سابق على صفحات «الرأي العام» أن أول محاولة إغتيال سياسي ناجحة في السودان كانت في العام 1968م، حيث أغتيل وليم دينق مؤسس حزب سانو الجنوبي «وهو من القيادات التي إستجابت لنداء ثورة اكتوبر للعودة والحوار وإشترك بفاعلية في مؤتمر المائدة المستديرة الذي اعترف بالفوارق بين الشمال والجنوب ووصل لصيغة أن يحكم الجنوب حكماً إقليمياً، ولكن ربما لم تعجب مشاركته هذه آخرين فجاء إغتياله في تلك الاثناء حيث أتهم خصومه بتدبير حادث الإغتيال». ويضيف البعض الى القائمة حادثة إغتيال عناصر أريترية في السبعينات تمت ايضا داخل الأراضي السودانية.. شبهات ويدرج بعض المراقبين اعدام محمود محمد طه على أنه لا يقل عن الإغتيال السياسي، ويصفون عدم محاولة إسعاف الإمام الهادي الذي كان ينزف لفترة طويلة قبل أن يفارق الحياة بذات الوصف، وكما يضمّن البعض الحادثة التي أودت بحياة النائب الاول لرئيس الجمهورية السابق زعيم الحركة الشعبية د. جون قرنق في ذات الخانة «خاصة بعد الجدل الكثيف الذي اثير آخيراً، واعتزام الحركة فتح ملف التحقيق في وفاته وتشكيك عدد من قادتها في تقرير لجنة التحقيق» وكان د. قرنق المثير للجدل حيا وميتا قد نجا من عدة محاولات أهمها تلك التي كانت في مدينة بور من حرسه الخاص العام 1988م وبعدها قام بتغيير حرسه وجاء بفريق حراسة من أبناء النوبة مات أحدهم واسمه جمعة معه في حادث الطائرة الكارثة. ويشير المراقبون إلى أنه كان من أكثر السياسيين تشديدا لحراسته الشخصية ربما لشعوره بأنه مستهدف من خصومه. ولا تبدو بعيدة عن القائمة الطريقة التي أغتيل بها صاحب صحيفة «الوفاق» الصحافي محمد طه محمد أحمد، اذ يشير البعض الى ان السياسة ليست بعيدة عنها، وتتشابه طريقة الاغتيال لمحمد طه على نحو ما مع ما حدث لمكي مؤسس جريدة «الناس» الذي أختطف العام 1969م وان اختلفت طريقة القتل، فد تحدثت انباء عن تذويب جثة مكي الناس في براميل من الاحماض. حاولات واوضح محمد سعيد في إفاداته تلك أن محاولات اخرى سبقت تلك التي نفذت وأودت بحياة المستهدفين، ومنها المحاولة التي تعرض لها الزعيم إسماعيل الازهري من أحد المعتوهين حين حاول الهجوم عليه بآلة في مطلع العام 1958م أثناء جولة له في قرية بالقرب من القضارف. ويقول سعيد أن الأزهري «الذي كان في منتهي الهدوء والسكينة حينها» شدد على عدم ذكرالحادثة. ويروي التاريخ أن فترة حكم رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي في النصف الثاني من الثمانينات شهدت حادثة أعتبرت الأشهر في التاريخ السوداني وهي إغتيال معارض نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين المرجع الشيعي مهدي الحكيم بفندق هيلتون الخرطوم. ورغم أن السودان وفقا للتأريخ ولإفادات الكثيرين لم يشهد لجوء خصوم السياسة والحكم إلى إراقة الدماء لإزاحة بعضهم البعض، إلا أن قدامى الصحافيين يؤكدون ان فترة الحكم المايوي شهدت محاولات فاشلة إستهدفت واحدة منها الرئيس الأسبق جعفر نميري وتم تجنيد ضابط برتبة رائد للقيام بها في القيادة العامة، ولكن عندما حانت لحظة التنفيذ مساء الخميس الرابع من سبتمبر العام 1975م كان نميري خارج القيادة العامة محتفلاً بوفد شركة شيفرون مع وزير الصناعة وقتها الدكتور بدر الدين سليمان «بحسب الرواية». ويقال ان محاولة إغتيال نميري تكررت في منطقة الجابر حين زار الجزيرة أبا، لكنه نجا منها بسبب الحماية التي وفرها له العميد أحمد أبو الدهب والرائد عثمان الامين. وعندما قامت حركة هاشم العطا في 19 يوليو أوكلت لحرس نميري مهمة إغتياله إلا ان التعليمات لم تنفذ في القصر الجمهوري الذي كان به نميري وكبار معاونيه ونفذت في بيت الضيافة فكانت نتيجة ذلك ما عرف تأريخيا بمجزرة بيت الضيافة. ويذهب عدد من الخبراء الأمنيين والسياسيين إلى أن الاغتيال السياسي ظاهرة لا توجد في السياسة السودانية ربما لطبيعة المجتمع المتسامحة، ولكنها حينما تحدث يكون الغالب ان منفذيها والمستهدفين فيها أجانب وكلها تمت بواسطة جهات ذات إرتباط وثيق بدول أجنبية.