قرر الفنان المسرحي الفذ مكي سنادة الانصراف عن خشبة المسرح، وهو قرار صائب،وفيه تقدير للنفس.قدم سنادة حيثيات قوية لقرار اعتزاله المسرح.قال ان قراره ليس تكتيكيا وانما استراتيجي،اي انه قرار لا رجعة فيه،وبرأيه ان ما دفعه للخطوة هو انهيار الحركة المسرحية في السودان،وقد وصفها بأنها تعيش اسوأ اوضاعها. وهذه حيثيات صحيحة،بنسبة اقرب الى المائة في المائة.فيها الكثير من القول «الفصل». الحقيقة التي تمشي بألف ساق، ويفترض ان يكون كل من يشتغلون في مجال الفنون قد ادركوها بوعي تام، هي ان المسرح،كفن يعرف بأنه فن راقٍ،وبأنه الاب الروحي للفنون، بات يمضي سريعا نحو المتاحف للجلوس على أرائك التاريخ. ليس في السودان وحده،وانما في العالم كله.المستحدثات في عصر الحداثة، ثم عصر ما بعد الحداثة، فرضت، وبقوة جبارة،قوالب واساليب واوعية وظروف جديدة للفنون،وضعت ضروب الفنون كلها في محك:اما ان تنتبه وتغير جلدها،عبر تعديلات جينية معتبرة في بعض شروطها وخصائصها،بما يحقق لها عنصر المواكبة،او تواجه مصيرا صعبا، اقله الانزواء ثم الاختفاء والعودة،بشكل درامى قهقري،الى المتاحف وغرف التاريخ،لتسود من حولها لغة «كان»،لتنتصب محرابا للناستولجيا، والبكاء على القديم ! وقد وقع المسرح في الفخ،وسقط في امتحانات التغيير والتبدلات الحتمية في العالم.واظن ان بعض الشروط الصارمة للمسرح،هي التي عرضته لما يمكن ان اسميه «المرمطة» في هذا العصر.ليس من بين الشروط النص،ولا الممثلين،ولا الانتاج ومطلوباته ولا الاخراج ربما.ولكن من بينها اساليب العرض،واعني شرط الخشبة والجوقة ومقاعد الجمهور،وتوقيت العرض،وظروف العرض، الجمهور والجمهرة. فالنص يمكن ان يتطور والممثلون يمكن ان يتبدلوا،كما يمكن تحديث ادوات الانتاج. ولكن هل بالامكان ايجاد البديل او الغاء المسرح والجوقة الجمهور،ثم نقول،من بعد،اننا امام مسرح بمعني الكلمة. من الصعب قول ذلك! وهل بالامكان الاتيان بجمهور اخر غير الجمهور الحالي؟! يستحيل. جيل مسرحية «خطوبة سهير»،رائعة حمدنا الله عبد القادر ومكي سنادة لن يتكرر ابدا! والدليل ان سنادة حاول تكرارها في التسعينيات،ولكن المسرحية سقطت في الشباك،وسيحدث ذلك اذا ما حاول مع «نبتة حبيتي» ل هاشم صديق واخرجه،اي إخراج سنادة،او مع «حكم ام تكو» و«رمي الصاجات». العصر الحالي استهوى الناس على المشاهدة الفردية،عبر الانترنت والقنوات الفضائية،وجهاز الموبايل.وهذا النوع من المشاهدة، شكل جمهورا جديدا يمكن ان تسميه مزاجياً وكسولاً. يريد ان يتابع كل شئ وهو جالس أو متكئ أو راقد.يتثقف ويترفه ويضحك ويكسر الروتين، وهو داخل منزله،او في مكتبه.ربما،او في مكان مجاور.لم يعد مستعدا في اغلب الاحوال تكبد مشاق الوصول الى المسرح،في الحي البعيد،او حتى الحي المجاور،ولا «روح» تعينه على اللطعة في شباك التذاكر،والمدافرة في الدخول الى المسرح،والانحشار وسط مئات او آلاف الناس في المسرح،ثم يستمع الى ما لا يريد ان يسمعه من «ثقلاء» الجمهور،اثناء العرض،اي عليه وهو داخل المسرح ان يحتمل من يتعدى على حريته بصافرة او همهمة جانبية،او من صرخ «اااخ» لاستخراج بلغم،الى آخر التعديات المعروفة،التي تحدث في المسارح. للاسف ان كل تلك التحولات والتبدلات العالمية تحالفت مع بيئة سودانية محلية، في الاصل،غير صالحة للمسرح،فعصفت بهذا الفن في بلادنا في وقت مبكر،مقارنة بالاخرين.اما ان البيئة السودانية غير صالحة للمسرح،فهذه مقالة اخرى قائمة بذاتها، عنوانها «وحل» المسرح في السودان!