(المسرح أبو الفنون) و(اعطني مسرحاً أعطيك أمة..) عبارات تؤكد دور المسرح الرائد في تقدم ووعي الشعوب.. .. عرف (السودان) المسرح على يد رائد تعليم المرأة السودانية بابكر بدري وكان ذلك في حوالى العام 1904م بعروض مسرحية مدرسية بمدينة رفاعة بالجزيرة، ثم توالت بعد ذلك الكتابات المسرحية وانتشر ذلك الفن في كل من القطينة والخرطوم وغيرها من مدن السودان.. قرابة المائة عام وربما أكثر عمر الحركة المسرحية في السودان، وهي بذلك تكون قد سبقت مثيلاتها في معظم الدول العربية والإفريقية، وفي العام 1958 كانت نشأة المسرح القومي السوداني، فكان أول مؤسسة تخلق رابطًا وجدانيًا بين الجمهور السوداني وفن المسرح، فكان له الفضل في ظهور أهم رواد الحركة المسرحية في السودان، فكانت الجماعات والفرق والأفراد، وظهر كتَّاب ومخرجون من أمثال الأستاذ الفكي عبد الرحمن، بدر الدين هاشم، الطاهر شبيكة، الفاضل سعيد، أبو العباس محمد طاهر، عمر الخضر، عمر الحميدي، هاشم صديق، ومن الممثلين، الأستاذ العملاق مكي سنادة، محمد شريف علي، عبد الحكيم الطاهر، الريح عبد القادر، يس عبد القادر، عوض صديق، الهادي الصديق، والممثلات سارة محمد (أول ممثلة سودانية) فتحية محمد أحمد، رابحة أحمد محمود ، تحية زروق، آسيا عبد الماجد، بلقيس عوض، فائزة عمسيب، سمية عبد اللطيف، نادية بابكر.. وأيضًا اشتهرت مسارح كثيرة في ذلك الوقت بجانب المسرح القومي مثل مسرح النيل بعطبرة ومسرح عروس الرمال بالأبيض ومسرح الثغر ببورتسودان ومسرح مهيرة بدنقلا ومسرح تاجوج بكسلا لكن ورغم ذلك إلا أن (الحركة المسرحية) في السودان ما زالت حتى الآن عاجزة عن إثبات قدرتها على أن تكون أحد الروافد المؤثرة في الثقافة السودانية وهذا ما يثبته الواقع وتصريحات أهل المجال والمهتمون، ويصل الأمر إلى أنه بعد عن اهتمامات المواطن العادي.. ورغم المجهود المقدر الذي ظل يبذله المهتمون بالشأن المسرحي من أجل تطوير المسرح وإزالة العقبات للارتقاء به وجذب الجمهور إلى صالات العرض إلا أن هنالك جملة من الأسباب ظلت دائمًا تمثل عائقًا لمسيرة الحركة المسرحية. ثقافة ومما ضاعف من أزمة الحركة المسرحية إن صح تسميتها بالأزمة هو غياب ثقافة المسرح لدى المواطن السوداني، وهي ثقافة لم تجد طريقها إلى حيز اهتمامات المواطن الذي ظل ينظر إلى المسرح كنشاط هدفه توفير الضحك وخلق لحظات ترفيه ليس إلا وغير ذي أهمية في ظل واقع معيشي قاسٍ يعيشه المواطن الذي يكدح يومه لتوفير لقمة العيش، إضافة إلى أن مفهوم المسرح وفي هذه الفترة بالتحديد وللأسف الشديد لم يستلهم واقع الحال في البلاد في أعماله عدا بعض المحاولات هنا وهناك التي لم تكن بالقدر المطلوب.. ومن الإشكالات أيضًا وبحسب خبراء أن غياب وضعف الحركة المسرحية ساهم بشكل متبادل في ضعف النقد المتخصص، مع عدم بذل المسرحيين أي جهد للتواصل مع الجمهور من خلال إقامة الندوات أو السمنارات والنقاشات في أندية الأحياء مثلاً أو في الجامعات للمساهمة في نشر ثقافة المسرح واتساع مساحتها ضمن الهم الثقافي لدى المواطن السوداني. لا ننكر أن هناك نشاطًا في مجال المسرح ولكنه ليس بالقدر المطلوب كمًا ونوعًا خاصة مع الحضور الطاغي للقنوات الفضائية فأصبحت فكرة الذهاب إلى المسرح لا تجد ما يحفزها في عقل المواطن. واقع مؤسف بدوره قال الدكتور شمس الدين يونس الأستاذ بكلية الموسيقا والدراما بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا والمدير السابق للمسرح القومي في حديثه ل (الإنتباهة): إن واقع المسرح السوداني مؤسف للأسباب الآتية التي أولها أن المسرح يفتقر تمامًا إلى البنيات التحتية للعرض المسرحي على مستوى الخرطوم وعلى مستوى الولايات بشكلٍ عام، وثانيًا يفتقر المسرح إلى المؤسسات الداعمة والراعية للعمل المسرحي، وثالثًا يفتقر المسرح إلى صناديق الدعم للإنتاج المسرحي وهذا فيما يتعلق بالبنيات التحتية للمسرح في السودان، أما فيما يخص الكتابة المسرحية فأكد الدكتور شمس الدين يونس أن المسرح في السودان يفتقر إلى الكتابة المسرحية الذكية التي تتناول قضايا المواطن السوداني بتعقيداتها كافة وفي علاقاتها بما حولها وتوظيفها لكل ما هو جديد، مضيفًا أن المبدعين في مجال المسرح يفتقرون إلى التدريب وبناء القدرات، كما أنهم لا يشاهدون ولا يعرفون ولا يتابعون ما وصل إليه المسرح، كما أن قلة الاحتكاك بالتجارب المسرحية المختلفة إقليميًا ودوليًا تعتبر سببًا أيضًا، مبينًا أن ضعف الفكر المسرحي على مستويات النقد والتنظير وانعدام الوسائط الناشرة للكتابات الإبداعية في مجال المسرح وسيطرة النموذج السبعيني للمسرح على تطورات المسرحيين السودانيين كان سببًا في أزمة المسرح وعند سؤاله عن كيفية العودة بالمسرح إلى سيرته الأولى وعصره الذهبي أجاب قائلاً: (أنا ضد القول أن تعود الأشياء إلى سيرتها الأولى فنحن يجب أن نذهب إلى الأمام لا أن نعود إلى الوراء وهذه المقولة هي كلمة حق أريد بها باطل)، مضيفًا أنه لا بد من دراسة واقع المسرح الآن وما وصل إليه دراسة متأنية، كما يجب أن ترسم خطط للمستقبل للخروج من هذه الأزمات التي يعيشها المسرح السوداني، وأجمل الدكتور شمس الدين يونس رؤيته لحل هذه الأزمة بضرورة قيام مجلس أعلى للفنون الأدائية بشكل عام التي من ضمنها المسرح وأن تكون لهذا المجلس السلطات الفنية والمالية كافة بحيث يستطيع أن يؤسس لحركة مسرحية للسودان ككل، كما أنه لا يجب أن يترك أمر الثقافة مبعثرًا بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات ووزراء الثقافة بالولايات والمحليات التي لا تعير اهتمامًا للعمل الثقافي، مضيفًا أن على الدولة أن تضع في اعتبارها أن الثقافة والفنون هي من الإستراتيجيات الأمنية للدولة وليست عملاً ترفيهيًا القصد منه تمضية أوقات الفراغ والتسلية، مشيرًا إلى أن المسرح القائم الآن في السودان بعيد كل البعد عن واقع البلد الثقافي والاقتصادي، وبعيد كل البعد عن الترفيه والإمتاع، وهو معزول تمامًا عن وعي ومشكلات ومتطلبات المتلقي، وأضاف يونس أن المؤسسات التعليمية المتخصصة في مجال المسرح في السودان تقوم بواجبها في حده الأدنى وهو أن تخرج طلابًا مثقفين فنيًا وهؤلاء تنقصهم الخبرة والمعرفة باعتبار أنهم يخرجون إلى الفراغ حيث لا مسرح أصلاً وليست فيه حركة فنون وليست فيه مواعين تستوعب هؤلاء الطلاب وهذا ما يشكل إشكالية كبيرة لهذه المؤسسات، وبالتالي نجد الخريجين في هذا المجال لا يمارسون نشاطًا حتى على سبيل المشاهدة لما درسوه وبمرور الوقت تنكمش هذه الطاقات والإبداعات وتصبح ليست ذات قيمة وسيكون ضررها أكثر من نفعها. ميزانية بدوره أوضح مدير المسرح القومي الأستاذ صديق صالح أن ضعف ميزانية المسرح هي العائق لتطور وتقدم المسرح في السودان باعتبار أنه ولكي يكون هناك عمل مسرحي متميِّز ويلبي حاجة المتلقي لا بد أولاً أن تتوفر الميزانية اللازمة له، وقال إن الميزانيات الآن والمخصصة للمسرح سواء كان في هذه الفترة أو التي تلتها أصبحت لا تكفي لإدارة وتطوير النشاط المسرحي في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، مضيفًا أن انقطاع المواسم المسرحية وتباعد فتراتها أدى أيضًا إلى تدهور المسرح، وعن عدد المسرحيات التي تعرض في العام وعن إنتاجها والمواسم المسرحية يقول مدير المسرح القومي إن عدد الأعمال التي تقدم في العام يصل إلى (10) أعمال مسرحية في الموسم وقد تزيد، وكان المسرح القومي هو من يقوم بإنتاجها بصورة كاملة لكن الآن أصبح الإنتاج يتم عبر شراكة بين المسرح القومي وبين الفرقة التي تريد تقديم العمل ويقوم المسرح هنا بتوفير بعض الاحتياجات من مكان العرض والفنيين والديكور والدعاية والإعلان للعرض، وبالنسبة للمواسم فإن نجاح الموسم يعتمد بالدرجة الأولى على القدرة على الإنتاج وقابلية الأعمال فهناك مثلاً أعمال تعرض ولا تزال هناك قابلية لمتابعتها وفي هذه الحالة يصبح من الصعب تحديد زمن محدد لنهاية الموسم وهنا نحن نترك عدد أيام العرض مفتوحة بحسب قابلية الجمهور للعروض، وأحيانًا تجد عددًا قليلاً من الأعمال تغطي الموسم كله، مضيفًا أن هناك (7 إلى 10) أعمال تعرض في الموسم المسرحي، مؤكدًا أنهم منذ هذا العام عقدوا العزم على ديمومة المواسم المسرحية بصورة منتظمة ودون انقطاع.. وقطع الأستاذ صديق صالح بأن المسرح لن يتطوَّر بالشكل المطلوب إلا إذا وفرت له الميزانيات وتم دعمه، وأضاف بالقول: المسرح الآن بعيد عن الاستمرارية والعملية الإنتاجية الكاملة، مشيرًا إلى أن المسرح يعتبر قيمة عالية جدًا ومنوط به القيام بالعديد من الأدوار الكبيرة في المجتمع في كل المجالات وخاصة المجال الثقافي والاجتماعي فهو مرآة الأمة، وقال مدير المسرح القومي: أنا أصرّ على أن لا يخرج المسرح من دولاب نفقة الدولة وميزانيتها وضرورة أن ينظر إليه على أنه يحتاج الدعم المتواصل من الدولة، وطالب صالح بوقفة صلبة جدًا فيما يلي الدعم للنشاط المسرحي ولا بد من الاهتمام بذلك قبل كل شيء، وختم حديثه بالقول: (وفروا لنا معينات العمل والميزانيات وبعدها اسألونا عن مهمتنا وعن توصيل رسالة المسرح)..