في مكالمة هاتفية، وصف الدكتور الشفيع خضر القيادي البارز في الحزب الشيوعي الأوضاع في إقليم دارفور بأنها لا تقل تعقيدًا عن قضية الشرق الأوسط ، ما سمى بقضية الصراع العربي الإسرائيلي، أو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وكان خضر قاطعاً في قوله. ويرى أن أسبابها الكبرى فشل السودانيين منذ الاستقلال في بناء دولة عالجت كل القضايا المصيرية، ومن تعقيداتها الكبرى أنها صارت لها أبعاد قبلية خطيرة. قد تندهش للوهلة الأولى من كلام الخضر، وقد تفلت منك كلمة»بالغت»، ولكن لو تركت لنفسك فرصة وافية لمتابعة تطورات الأزمة بكل أبعادها وفصولها، بوسعك ان تقول للخضر» معك حق». وكثيرون يرون أن قضية دارفور لم تعد الآن، قضية مجموعة من المسلحين قدروا أن حمل السلاح هو المدخل « الصحيح « ، لحل قضايا رفعوها تتعلق بدارفور ، وبين الحكومة المركزية، ولم تعد فقط قضية أفرزت صراعاً محلياً قبيحاً بين المجموعات العربية والأخرى الأفريقية في دارفور»عرب زرقة»، ولم تعد فقط ساحة شد عنيف بين القوى السياسية، بين أحزاب فقدت فيها السطوة القديمة والبريق القديم، وتسعى لاستردادها بشتى الوسائل، وبين قوى جديدة ظهرت تسعى هي الأخرى، لخطف دارفور من القوى التقليدية تماما، ووضعها في خانة» الدوائر المقفولة»، ولم تعد فقط، بقعة مضطربة، وجدت فيها القوى الاقليمية المصطرعة فيما بينها أرضا خصبة لمعارك ب «الباب»أو ب»الوكالة» بين تلك القوى الاقليمية، كما أن القضية ليست دولية تجد فيها القوى الدولية بتشعباتها المختلفة ومصالحها الكثيرة المتضاربة مياهاً عكرة للصيد فيها. تجد الصين وأمريكا في دارفور، ولكن ليس بالضرورة أن ينتهي وجودهما في قلب الأزمة إلى نهاية واحدة، ربما لكل منهما تصور لنهايات تتباعد بعضها البعض. وعندما تنظر فرنسا إلى الأزمة في دارفور تبدو لها في شكل مختلف عن نظر أمريكا للقضية. تنظر فرنسا للقضية من زاوية وجودها»الدائم»في فرنسا. الأزمة إذن، حصيلة كل تلك الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية. وكثيرون يقولون إن الأوضاع الآن، في دارفور هادئة، بشكل نسبي مقارنة بحرائق العام 2003 ، وفي حديثهم حقيقة، ولكن لا يعني ذلك أن المشكلة قد حلت، وان أيدي الأطراف قد رفعت عن الزناد، فما زال الوضع»قرطاجنة»، والكلمة اسم حولها عبقري الأدب العربي طه حسين إلى»مصطلح» خاص به، يشخص به كل وضع مضطرب وغير مفهوم وغير محدد المعالم،أو ما يسمى بالعامية السودانية الوضع» المخرمج «. ويستخدمها طه حسين حين يكون المقام لتوصيف الأفكار بمواقف فكرية في قوالبها المتعددة. ولا يعرف لماذا اختار»قرطاجنة»،التي هي في الأصل اسم لبوابة مدينة تونس في العهود القديمة من خلال توجهه صوب مدينة قرطاج السياحية الساحلية في تونس، تقع شمال العاصمة تونس، كما أن» قرطاجنة» مدينة تقع على خليج جميل في البحر الأبيض المتوسط جنوبي أسبانيا، بها مرفأ ضخم، وتضم واحدة من أهم القواعد البحرية الأسبانية، كما ان»قرطاجنة»مدينة في شمال كولومبيا في أمريكا الجنوبية ، ويسميها أهلها أيضا» كارتاخينا دي اندياس». ويرجح ان» طلاب» طه ان الاخير يقصد» قرطاجنة» الاسبانية، لأنها اضطربت كثيرا حتى صارت في عهد الفينيقيين واحدة من مدن العبث في اوروبا. كانت»مخرمجة». وهذه قصة اخرى. القضية التي ظلت منذ تفجرها محل الجدل المستمر بين الولاياتالمتحدة والحكومة السودانية، انتقلت هذه الايام الى الاتجاه المغاير حيث اصبحت خلافاً بين الحركات المسلحة في دارفور والولاياتالمتحدة ممثلة في مبعوثها الخاص غرايشون، من اقصى اتجاه الى اقصى الاتجاه الآخر، وذلك في اعقاب التقرير الذي قدمه غرايشن نهاية الاسبوع الماضي الى الكونغرس الامريكي قال فيه ان الوضع في دارفور في تحسن، وطالب فيه برفع اسم السودان عن اللائحة الامريكية للدول الراعية للارهاب، وقدم المبعوث جملة افادات ايجابية في حق الحكومة ، ما دفع ذلك الاخيرة الى وصف التقرير بانه» متقدم ونزيه»، فيما رأت الحركات المسلحة في دارفور في التقرير بانه نابع عن جهل المبعوث بالاوضاع، وأعتبروا التقرير وكأنه مقدم من وزير خارجية السودان، وشدت بعض الحركات»الحبل « مع المبعوث وقالت انها قد لا تلتقيه. ليس الامر عند ذلك الحد ، وانما الامريكيون انفسهم في الادارة الجيدة، شدوا الحبل فيما بينهم بشأن السودان وبشأن دارفور على وجه الخصوص، على خلفية حديث غرايشون. ولايعرف متى سينتهى الجدل، والى اين يوصل القضية، والى أي درج من الادارج. كل هذا يؤشر الى ان القضية مطوقة بمؤثرات كثيرة، لاتقل عن تلك التي تعاني منها هذه الايام قضية الشرق الاوسط : ام القضايا في المنطقة. وانظر في الاتجاه الآخر تجد ان الشد الاخير ، بسبب حديث غرايشون، سيلقي بظلاله على الجولة المرتقبة للدوحة، لامحالة ، كما ان الدوحة ذاتها في حالة انسداد شبه تام، حتى آخر التصريحات من هذا الطرف او ذلك. لم تغادر محطة الاسرى. وهناك حديث عن مؤتمر دولي حول سلام دارفور في ليبيا، ولكن سيترك الاستقطاب الاقليمي حيال القضية لهذا المؤتمر ان يحقق اهدافه المنشودة وهي مفاوضات « جامعة»: تضم اكبر عدد من الحركات والحكومة على طاولة واحدة. التفاؤل مطلوب، ولكن الافراط فيه في مثل هذه القضية» القرطاجنة» تجلب الاتهام بالسذاجة.