بالرغم من تأكيد رئيس الحركة الشعبية في الدمازين بأن لا طلاق بين الشمال والجنوب، وهو تعبير جميل ومريح، إلا أن الشواهد التي تشير بعكس ذلك كثيرة. لعل أهمها استمرار شركائه من صقور الحركة في وضع المتاريس أمام علاقتها مع شريكها الرئيسي في الحكم المؤتمر الوطني. الحركة مسكونة بموضوع الندية للمؤتمر الوطني. المشكلة أن الندية لا تكتسب بالمشاكسة والمزايدة والرفض العشوائي لكل ما يقدمه الشريك. لكنها تبدأ من الداخل. من الشعور المتجذر بأننا لسنا أقل شأنا. في المشاريع، نقدم المشاريع المدروسة والمطالب المتوازنة التي تسبقها دائما دراسات الجدوى الفنية والاقتصادية. الرجل قد يطمع في وجود شريكة بجانبه يأمن لها أن تنظم له مملكته الصغيرة. فيختار واحدة يأنس فيها الكفاءة، لكن ما أن تبدأ اختبارات الحياة حتى يكتشف أنها امرأة (نقناقة)، كثيرة المطالب، كثيرة الشكوى، عشوائية في خياراتها، لا توازن بين امكانيات الأسرة وبين مطالبها. أغرب شيء في نظريتي الوحدة والانفصال بين الشمال والجنوب السوداني احتمال ثلاثي الوجوه : وجهه الأول: يقول إن الوحدة كانت خيار غالب في السودان بشماله وجنوبه، ولكن الشمال كان أقدر على التعبير عنها في أدبياته وحتى في مناهج المدارس منذ أيام (منقو قل لا عاش من يفصلنا). ووجه ثان، يقول: إن سلسلة التمردات التي بدأت في أغسطس العام 1955 هي التي زرعت بذور الانفصال، وأزهرت هذه البذور وظلت تنمو وتكبر مع استمرار تمايز السياسة بين الشمال والجنوب حتى وصل الجنوب إلى مرحلة الحركة الشعبية. أهم ملاحظة في هذا الوجه هي أن فكرة الانفصال ظلت تتضخم في الجنوب حتى تشبع بها تماما بينما بقي الشمال متمسكا بفكرة الوحدة دون أن يفطن إلى أزدهار التيارات (التحتانية) التي تؤججها عوامل الانفصال. ووجه ثالث، يقول: إن مجموع (التمردات) التي انفجرت في الجنوب منذ العام 1955 تركت وراءها أعدادا كبيرة من الضحايا حفرت في الشمال، كما في الجنوب مرارات زادت من اتساع الفجوة في الثقة بين جناحي القطر. في الشمال الذي ما زالت تحكمه توجهات الوحدة بدأ تيار جديد ينادي بالانفصال. هو تيار (تحتاني)، غير مرئي وغير محسوس، ولذلك لم يظهر في أدبيات الأحزاب السياسية الشمالية، بينما انطلق في الجنوب لدرجة أن أخذ تيار الوحدة يتوارى منه لأن تيار الانفصال القوي ربط بين الوحدة وبين مفهوم الخيانة الوطنية. في ظني أن تيار الانفصال في الشمال ليس أضعف من ذلك التيار في الجنوب، لكنه بقي تحت الرماد بينما تحول في الجنوب إلى تيار علني وغالب. وبعد .. تيار الانفصال غالب على الحركة السياسية الجنوبية. وفي الغالب لن تتعدل لغة الحركة الشعبية بتصريحات عابرة وإنما يتطلب تغييرها تغيراً في مفهوم الجنوب كله من الانفصال إلى الوحدة. ومفهوم الانفصال الذي استغرق بنائه أكثر من نصف قرن ليصل إلى ما وصل إليه حاليا، يحتاج إلى نفس المدة ليستعدل من الانفصال إلى الوحدة.