(1) إثنان وأربعون عاما والعواصم العربية تحفظ للخرطوم ودبلوماسيتها في ذاكرة غير قابلة للطي أو النسيان لاءاتها الثلاث (لا صلح، لا إعتراف، لا تفاوض) وبالطبع مع إسرائيل. قمة العرب السادسة التي جاءت في أعقاب هزيمة منكرة للعرب العام (1967م) لدرجة أنه أصطلح عليها ب (النكسة)، أستطاعت تحقيق تقارب في الموقف العربي المتشظى حينها جراء الخلافات السعودية المصرية بل والخروج بمقررات قوية سواء على صعيد الثوابت (اللاءات الثلاث) أو في الصعيد المادي بإستخدام سلاح النفط. (2) محمود عباس أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية حط بمطار عاصمة اللاءات الثلاث نهايات الإسبوع الماضي، محملاً بالكثير من الهموم الملقاة على عاتقه وتعادل في مقدارها إرث النكسة الثقيل: إبتداءً من حالة التشرذم الفلسطيني، مروراً بإتهامات القدومي له بسمّ ياسر عرفات الرئيس التاريخي للحركة، والإستقطاب الحاد في الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية وهو ما وضح جلياً في أزمة غزة الأخيرة، إضافة لقضية اللاجئين العالقين بين حدود سوريا والعراق. ويحدو رام الله التي حل رئيسها في الخرطوم نهايات الإسبوع الماضي أمل بأن تلعب نفس دورها في قمة (67) لأجل رتق النسيج العربي وحلحلة العقدة الفلسطينية بحسب فرضية أن التاريخ متهم وعلى الدوام بأنه يعمل على إعادة نفسه. (3) مواقف السودان تجاه القضية الفلسطينية ظلت دوماً من القوة التي تصل في أحايين كثيرة لدرجة (الشطط) بحيث كانت الخرطوم العاصمة الأكثر وفاء لتوصيات قمتها ولا يزال جواز سفرها يحمل العبارة الشهيرة (كل الدول عدا إسرائيل) من خلال دعم خيار الشعب الفلسطيني في المقاومة، ورفض أي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل وإن جعلها ذلك مثل السيف وحدها تصديقاً لمقولة د. مصطفى عثمان إسماعيل مستشار رئيس الجمهورية إن علاقات السودان تبنى على أساس المبادىء ولو أدى ذلك لخسائر في صعيد المصالح. (4) وظلت الخرطوم متهمة بقيادة ما عرف ب (تيار الممانعة) الداعم لحماس والذي أوصت دوله بتعليق المبادرة العربية للسلام، ووقف التطبيع مع إسرائيل، وإنشاء صندوق لإعادة إعمار غزة في قمة الدوحة التي تراخى وغاب عنها كثير من الدول ذات الثقل بالمنطقة. ومن يضع الخرطوم في خانة الإنحياز لحماس يتحرك من مواقف يرى فيها الخرطوم بمنظور الداعم للحركة سواء بالمال، أو إيواء وإستقبال الرجال، إضافة للتسليح وهي إتهامات أعلنتها تل أبيب صراحة، وظل ينفيها المسئولون المحليون بإستمرار كما ونفى ذلك خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة بقوله: حماس تحتفي بالعلاقة مع الخرطوم وتكتفي بالدعم السياسي والمالي والإعلامي بينما العبء العسكري للمقاومة فإن الحركة مسؤولة عنه. ونقطة اخرى تحسب على العاصمة السودانية تمثلت في إلتقاء الرئيس البشير بقادة حماس في العاصمة السورية وإعلانه لموقفه التضامني معهم جراء ما يتم في غزة إبان الأزمة في وقت كانت فيه كثير من العواصم تزن مواقفها بالإستناد الى حسابات الربح والخسارة. (5) الخرطوم وفي كل تلك الأجواء الإستقطابية ظلت تبعث برسائل فحواها نأيها عن صراع المحاور العربي، والوقوف على مسافة واحدة من الفرقاء وتدلل على ذلك بمشاركتها في قمتي (الكويت) لدول الإعتدال و(الدوحة) لدول الممانعة وهو ما أكده د. غازي صلاح الدين العتباني مستشار رئيس الجمهورية ل(الرأي العام) بنفيه أن يكون السودان دخل ضمن صراع المحاور بين الدول العربية في التعامل مع الأوضاع في غزة وبرهن على ذلك بمشاركة السودان في قمتي الدوحة والكويت. ومن الضروري ان يكون رئيس السلطة الفلسطينية إستوعب تلك الرسائل المنبعثة من الخرطوم وهو قادم نحوها. (6) أبو مازن الذي قدم للخرطوم حمل في حقيبته عدداً من الملفات الشائكة وفي مقدمتها الملف الفلسطيني، بالإضافة لمعرفته عن مدى التقارب بين غزةوالخرطوم وهو الأمر الذي من شأنه تقريب وجهات النظر الفلسطينية شديدة التباعد. وعن أهلية الخرطوم لعب دور في المصالحة الفلسطينية وهي المصنفة -وأن أبت- الوقوف في صف دول الممانعة رهن د. حسن الساعوري المحلل وأستاذ العلوم السياسية الأمر برمته لنوايا ابومازن وقال ل (الرأى العام): حال كانت نية أبومازن إستقطاب الخرطوم لجناح فتح فإن ذلك محكوم عليه بالفشل على خلفية العلاقات القوية والقديمة بين (الخرطوموغزة)، أما إن كان يحمل في حقيبته عرضاً يحوى بعض التنازلات ويصب في إتجاه المصالحة فإن الخرطوم قادرة على لعب دور الوسيط. (7) كثير من المراقبين يرى أن علاقات الخرطوموغزة لن تمر الا عن طريق واشنطن خاصة في ظل بوادر تفاهم بين الموقفين السوداني والأمريكي مؤخرا، ما يعد فتحاً لمسار جديد عكس إرادة الجغرافيا وما تشتهيه سفن حماس. وبات موقف إغلاق المكتب الإعلامي للحركة في الخرطوم مادة دسمة للتحليلات السياسية التي وصلت احداها إلى أنه تم نتيجة ضغوط أمريكية وهو ما نفاه مشعل الذي قال: علاقة الطرفين جوهرية وليست شكلية، وذهب أبو محمد مصطفى القيادي بالحركة في حديث له ب (الشرق الأوسط) ذات منحى مشعل بنفيه أن تكون مغادرة جمال عيسى مدير مكتب الحركة بالخرطوم عائدة لطلب من الحكومة السودانية وإنما هو خطوة تمت في إطار تنقلات تجريها الحركة. وأعتبر بروفيسور الساعوري أن قضية دعم السودان لحماس من القضايا المهمة للجانب الأمريكى ما يحتم بالضرورة طرحها في أى مقترحات لتطبيع علاقات الخرطوموواشنطن. (8) أبو مازن الذي استغرقت زيارته مدة يومين للخرطوم خرج بعدة مكاسب أهمها - بحسب ما يرى بروفيسور حسن مكي المفكر الإسلامي مدير جامعة إفريقيا العالمية - إرساله رسالة للإسلاميين الفلسطينيين بمقدرته على التعامل مع نظام لطالما ساند وآزر حركة حماس. وعلى أية حال فإن الجميع يأمل في أن يكون أبو مازن قدم للخرطوم بمقترحات تسهم في حل الأزمة بين (رام الله) (وغزة)، وليس بدعوات لزيادة (حماسة) الخرطوم ل (فتح) في مقابل فتور علاقاتها مع (حماس).