مدير مجموعة (انصاف افريقيا) في لندن ومدير برنامج (مجلس ابحاث العلوم السياسية) في نيويورك كتب الكثير عن السودان ودارفور خصوصاً في موقعه على الانترنت (فهم دارفور) .. كم يبلغ عدد الاشخاص الذين فقدوا ارواحهم في دارفور؟ وما هي قيمة مثل هذه المعلومات؟ القرار الاخير الصادر عن هيئة معايير الاعلان البريطانية ومفاده ان مجموعة (انقذوا دارفور) كانت مخطئة حين حرّفت الرقم الذي يُشير الى مصرع (400.000) شخص وجعلته (حقيقة) بدلاً من ان تقول إنه مجرد (رأي) وان ذلك ادى إلى اثارة جدل ظل يُلقي بظلاله منذ فترة طويلة على مناصرة درء الكوارث الانسانية ..ويذكر ان هنالك اعلاناً صادراً عن مجموعة (انقذوا دارفور) جاء فيه: (المذابح تحدث في دارفور وانت بوسعك وضع نهاية لها. وفي العام 3002م تحرك الرئيس السوداني عمر البشير لسحق المعارضة عندما أطلق العنان للمليشيات المسلحة الشريرة لتذبح قرى بأكملها والقتلى هم بعض مواطنيه. وبعد ثلاث سنوات لقى زهاء ال (400.000) شخص من الرجال والنساء والاطفال مصرعهم). انتهى اعلان (انقذوا دارفور) وهناك جانبان لهذه القضية. أولهما ان الرقم الذي يشير إلى مصرع (400.000) شخص خلال الازمة هو السقف الاعلى للتقديرات التي لم تفرزها افضل الدراسات، ولذلك لا يمكن اعتبارها (حقيقة) بل هي في واقع الامر تفسير خلافي. وهذا هو محط الاهتمام في هذا الموضوع. والجانب الثاني هو القول بإن كل هذه الوفيات نتيجة للمجازر التي ارتكبتها حكومة السودان ومليشياتها بدلاً من القول بأن الوفيات جراء الجوع والمرض هي الغالبة. وبينما مثل هذه الوفيات التي تحدث بسبب المجاعة قد يكون سببها الاخير هو الحرب وخاصة سلوك الحكومة عند الحرب طيلة المرحلة الممتدة من عامي 3002 - 4002م، فان ثمة فرق مهماً بين القتل نتيجة للعنف، والقتل نتيجة لهذه الاسباب الأخرى. وكما قال سام ديلي في عمود الرأي الذي كتبه يوم 21 أغسطس بصحيفة «نيويورك تايمز» ان وصفات السياسات العديدة التي تطالب بوقف المجازر عليها أن تنادي أيضاً برد فعل مختلف لوقف الجوع والمرض. وليس ثمة اختلاف حول ذلك لانه لا أحد يدعى بأن جميع الوفيات او معظمها كانت نتيجة للعنف. ولعل النظرة الشاملة التي يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها حول موضوع الوفيات في دارفور هو التقييم الصادر في أواخر العام 5002م عن (مكتب المحاسبة العامة الامريكي). وتطلب الامر الاستعانة بهيئة من الخبراء لدراسة مختلف المسوحات التي أجريت للوقوف على اعداد الموتى. وقد أدى هؤلاء الخبراء الذين انيطت بهم المهمة عملهم باحاطة وشمول جدير بالاهتمام وبمهنية عالية. وقد استخدموا معايير عليا لمضاهاة مقاييس الفحص. وتم إستخدام قدر كبير من الاحصاءات والعلوم لتقييم اعداد الموتى. وهنالك ايضاً احكام صادقة وليدة التجارب التي تكون لها اهميتها عند اختبار الافتراضات وفحصها. وقد طلب إلىَّ أن اكون ضمن هيئة التقييم بناءً على تاريخي في مجال القيام بديموجرافية الكوارث بما في ذلك دارفور خلال الثمانينات ولم يكن بوسعي قبول الدعوة لانني كنت مرتبطاً بحضور محادثات السلام في ابوجا. ولكن تقييمي للدراسات المختلفة لا يختلف عن اجماع الخبراء. والدراسة التي يمكن الاعتماد عليها اكثر من غيرها اجراها (مركز ابحاث حدوث الكوارث). وكانت أقل تقديرات يعتمد عليها تلك التي قدمها جون هاقان واريك ريفز ودراسة مركز ابحاث حدوث الكوارث تميل ايضا الى أدنى التقديرات. وبقراءة متأنية للطريقة التي اتبعها (مركز ابحاث حدوث الكوارث) وهي مسح لمسوحات بدلاً من دراسة ميدانية - ومن الواضح ان المؤلفين كانوا حريصين على التوصل إلى افتراضات متشائمة عند كل مرحلة - وهذا أمر غير معتاد ذلك لانهم عادة يقومون بافتراضات وسطية أو هامشية متفائلة عن اعداد الوفيات. وسبب التشاؤم هو أن ارقام الوفيات في دارفور قد تم تسييسها مع وجود عدد كبير من المناصرين يتحدثون عن معدلات الموت المرتفعة جداً، في حين ان ذلك لا تفرزه أدلة ممنهجة.. والباحثون في (مركز ابحاث حدوث الكوارث) لا يريدون ان يكونوا متهمين بالتقليل من حجم الازمة. وبالنسبة لي شخصياً فقد كنت افضل ان أرى (مركز ابحاث حدوث الكوارث) وهو يتسمك بافتراضات وسطية وتبعاً لذلك التوصل إلى رقم أقل قليلاً من التقديرات الكبيرة لأعداد الموتى. والسبب في ذلك مرده الى تاريخي الخاص حول تقدير وفيات المجاعات الذي يعود الى بحث الدكتوراة التي قدمتها خلال الثمانينات. والسؤال الاساسي الذي وددت التطرق له خلال دراستي التي كانت بعنوان: (المجاعة التي تقتل) هو : لماذا يتنبأ الخبراء الاجانب بمعدلات عالية من الوفيات في دارفور خلال عامي 4891و5891م وقد فشل اثبات تلك التنبؤات بالرغم من شح مساعدات الاغاثة وقد قمت بمقارنة تنبؤات الوفيات خلال تلك المجاعة التي تراوحت بين (175.000) شخص ومليوني شخص (والقابلية للخطأ تكون في الرقم الأعلى) مع أفضل التقديرات الديموجرافية والوبائية التي كانت (95.000) وحاولت توضيح ان الخبراء الاجانب قد أخطأوا في ذلك خطأً حسيماً. والسبب الرئيسي ان أهل دارفور كانوا اشد قوة واكثر مهارة في اجتياز فترات ازمات الغذاء مما توقعه الخبراء الاجانب. والفكرة الخاطئة التي كانت اكثر شيوعاً (والتي تتردد الآن) هي ان السكان الذين لا تصلهم المساعدات الاجنبية كانوا في وضع اكثر سوءاً من السكان الذين يتم الوصول اليهم. وهناك في الواقع ثلاث قواعد يمكن الاعتماد عليها فيما يختص بمعدل الوفيات خلال الأزمات الانسانية، القاعدة الادنى انه إذا ما قدم مصدر عليم سلسلة من التقديرات لوفيات حقيقية او للتنبؤ بالوفيات - قل مثلا (ما بين 50.000 إلى 200.000 من الموتى في العام القادم) فان الصحافة ومناصري الشؤون الانسانية سوف يتمسكون بالرقم الأعلى ويتجاهلون الحد الادنى او الاوسط. وحتى عندما تخفض دراسات ما بعد الصراع عن هذه الاعداد فإن الرقم الذي تم الترويج له من قبل سوف يظل موجوداً في السجلات. ولذلك فإن المجاعة الاثيوبية العام 48- 5891م ما زال الاعتقاد السائد هو انها اهلكت مليون شخص لان كبار مسئولي الاممالمتحدة قد قالوا ذلك - ولكن واستناداً على أن الارقام الدقيقة من الصعب ايرادها فان افضل التقديرات من جانب الديموجرافيين وعلماء الأوبئة هي التي تشير الى نصف ذلك العدد. وبوسعي أن اقدم العديد من الامثلة. والقاعدة الثانية هي أن عمال الإغاثة على الأرض الذين يعملون وسط اكثر السكان جوعاً ومرضاً اعتادوا على القيام بمسوحات تقود إلى تقديرات للوفيات تكون عادة اعلى بقليل من المسوحات التي تُجرى لعامة السكان. ولهذا السبب فان الديموجرافيين ينصحون في كثير من الاحيان بأن دراسات موتى المجاعات يجب ان تتم على ايدي خبير خارجي بدلاً من عامل ميداني. والقاعدة الثالثة هي ان ازمة النزوح الواسع النطاق تتبع عادة منحى وفيات منتظم ويمكن التنبؤ به. فهناك قمة يليها انخفاض يستمر ببطء نحو التساوي وبذلك تأتي معدلات الوفيات الى المستويات العادية. وبرز نقاش تركز على اولئك الذين ماتوا جوعاً او نتيجة للمرض. فقد قمت انا و(جنفر ليبنيق) بدراسة حول الوفيات في مقديشو خلال حرب العام 2991م التي حاولنا اثناءها استخدام بعض تقنيات المسح. وحاولت ايضا استخدام ذلك في جبال النوبة بعد سنوات من تلك الدراسة ولم يكن الامر سهلاً. ولكني اميل إلى ترجيح تقديرات (مركز ابحاث حدوث الكوارث) واقول ان حوالي 03% من الوفيات في ذروة الحرب العام 3002 - 4002م كانت بسبب العنف. وفي الختام فان دراسة (مركز ابحاث حدوث الكوارث) تظل الافضل، بالرغم من اننا في حاجة الى مراجعة ارقامنا صعوداً او هبوطاً عندما تتوافر معلومات أفضل.