سياسة العصا والجذرة تنطبق تماما على المقاربة الأمريكيةالجديدة حيال الحكومة السودانية. إذ من المبكر الحديث عن إستراتيجية أمريكية جديدة تجاه الخرطوم، فالرئيس الأمريكي باراك أوباما كان واضحا في البيان الذي أصدره وقال فيه إنه «في حال تحركت حكومة السودان لتحسين الوضع ميدانيا ودفع عملية السلام، ستكون هناك حوافز. وفي حال تخلفت عن ذلك ستزداد الضغوط الأميركية والدولية عليها». أي اعتماد السير في مسارين متوازيين حيال حكومة البشير؛ التلويح بالفوائد إذا استجابت الحكومة السودانية للمطالب أو الشروط «الأمريكية» والتهديد بالعقوبات وتأليب العالم ضدها إذا رفضت. المطالب أو الشروط «الأمريكية» التي تضمنها بيان أوباما هي وضع حد نهائي للنزاع وانتهاكات حقوق الإنسان وسماه «أعمال الإبادة «في إقليم دارفور» وهو الأمر الذي رفضه السودان على لسان الدكتور غازي صلاح الدين مستشار الرئيس الذي اعتبر أن استخدام مصطلح «إبادة» لا يعبر عن حقيقة النزاع. أما وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون كانت أكثر وضوحا عندما عبرت بالتفصيل عن المطالب الأمريكية، وهي معالجة الوضع في دارفور وتطبيق الاتفاق المبرم في العام 2005 بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان لإنهاء الحرب في الجنوب نهائيا وإحراز تقدم في المفاوضات حول ترسيم الحدود بين الجنوب والشمال وتنظيم استفتاء لتقرير مصير الولايات الجنوبية في العام 2011، وإجراء إنتخابات ذات مصداقية في ابريل من العام المقبل. الموقف السوداني تحدث عن «نقاط ايجابية» في بيان الرئيس الأمريكي حسب غازي صلاح الدين الذي أشار إلى انه «مقارنة بسياسات الماضي، ثمة نقاط ايجابية، إحداها أننا لا نلاحظ أفكارا واقتراحات متطرفة كما لاحظنا في الماضي «...» هذه الأفكار المتطرفة» التي كان يدافع عنها من يؤيدون (تدخلا عسكريا في السودان «وإقامة» منطقة حظر جوي) فوق دارفور. غازي صلاح الدين رأى في الإستراتيجية الأمريكيةالجديدة «إستراتيجية التزام وليست إستراتيجية عزل»، وطالب واشنطن بالرد بمبادرات مقابل مبادرات الخرطوم. ولكن ما هي هذه الحوافز والروادع التي تتحدث عنها واشنطن؟ الحقيقة أن إدارة أوباما لم تكشف عنها، لكن مسؤولين أميركيين كباراً قالوا إن تفاصيلها واردة في ملحق سري للنص الذي نشر. إلا أن وزيرة الخارجية الأمريكية كشفت عن احد هذه الروادع ألا وهو «التأثير على الدول الأخرى مثل الصين التي تنقب عن النفط في السودان» أي بمعنى أكثر وضوحا تحريض الدول الأخرى ضد السودان وربما فرض عقوبات إضافية. لاشك أن العلاقات الأمريكية السودانية مرت بمراحل متعددة بعد الانقلاب أو» ثورة الإنقاذ» التي أوصلت الرئيس عمر البشير إلى السلطة في يونيو العام 1989 حيث أبدت الولاياتالمتحدة في المرحلة الأولى قلقها من نجاح التيار الإسلامي بالاستيلاء على السلطة وبروز مخاوف من إقامة دولة إسلامية، إلا أن الإدارة التي سارعت بوقف المساعدات الاقتصادية لم تتخذ موقفا عمليا ضد النظام الجديد وهو ما يمكن وصفه بمرحلة الترقب الحذر المشوب بالتوتر أحيانا وهو الأمر الذي استمر حتى منتصف التسعينيات. لكن العلاقات أخذت تتردى بعد ذلك خاصة بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا، حيث وجهت الاتهامات لحكومة الإنقاذ وسارعت الولاياتالمتحدة إلى إدراج السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب وسعت إلى تشديد الخناق على السودان عبر محاولة فرض حظر اقتصادي وجوي ومنع الدبلوماسيين السودانيين من السفر إلى خارج السودان، وبلغت الأمور أوجها بإقدام واشنطن على إغلاق سفارتها في الخرطوم العام 1996 وسحب سفيرها ودبلوماسييها إلى العاصمة الكينية نيروبي. لكن الأمور أخذت منحى اكبر من التصعيد غير المسبوق عندما أقدمت الولاياتالمتحدة في أغسطس 1998 على قصف مصنع الشفاء للأدوية بحجة إنتاج أسلحة كيميائية، وهو ما دفع الحكومة السودانية إلى سحب دبلوماسييها من واشنطن في سبتمبر. بل أن التصعيد وصل مداه الأقصى عندما أوصى تقرير أصدرته وزارة الدفاع الأمريكية العام 1999 بتغيير نظام الحكم في السودان لأنه يخلخل الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي الإستراتيجية. إلا أن الأمور بدأت تتغير مع مطلع الألفية الجديدة إذ انتهجت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مقاربتين للتعامل مع حكومة الإنقاذ، وهي إتاحة المجال أمام الحكومة السودانية لتغيير نهجها مع الاستمرار في ممارسة الضغوط على الحكومة السودانية في نفس الوقت. هذه السياسة استمرت فيما بعد إلى جانب ممارسة ضغوط غير مباشرة على الخرطوم عبر الأممالمتحدة والهيئات الدولية وصولا إلى بدء مفاوضات علنية العام 2008 في أول محاولة لتطبيع العلاقات بين البلدين، وهي السياسة التي مازالت مستمرة حتى الآن. ولكن ما هي الأسباب التي أدت إلى تبني إدارة أوباما سياسة تبدو أكثر نعومة حيال السودان يمكن وصفها بسياسة القفاز الحديدي المغلف بطبقة من الحرير .. ناعم من الخارج ولكن يمكن استخدامه لتوجيه اللكمات عند الضرورة وهي سياسة مصممة لخدمة المصالح الأمريكية في السودان والقرن الإفريقي، ويبدو أن واشنطن بدأت تقتنع بان إيجابيات تحييد نظام الخرطوم وجلبه إلى صفها أو على الأقل تحييده أفضل من الدخول في مواجهة مباشرة أو غير مباشرة قد تؤدي إلى جلب مزيد من عدم الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي الملتهبة وربما تكون اقل كلفة مع ما تواجهه حكومة البشير من صعوبات داخلية وخارجية... إنها في الحقيقة لا تعدو عن كونها إستراتيجية لاحتواء السودان بطريقة تذكرنا بنظرية الاحتواء المزدوج للعراق وإيران في ثمانينيات الماضي.. نظرية فشلت هناك فهل ستنجح في السودان؟ ? صحفي عربي مقيم بالدوحة [email protected]