كتب صديقي (أ ت ص) تعليقا سريعا بعد أن قرأ عمود الأمس وهو بعنوان (أنا .. أنا اتخرجت من جامعة بنطون نوري)، ولما كان يتكلم في نفس موضوع العمود بالإضافة إلى طريقته المعتدلة في النقاش فقد دفعت بتعليقه إلى العمود مباشرة. يقول الصديق (أ ت ص) : أثار حديثك شجوني، فأردت أن أعقب عليه. قد تجد في تعقيبي شيئا من العاطفة ولكني سأحرص على ألا تطغى على الكتابة وتشوهها. منطقة مروي ظلت على هامش الهامش، لكن الغريب عنها قد لا يصدق ذلك إذا قدر له أن يزورها. فالقرى غالبا تكون مستمتعة بالتيار الكهربائي والمياه في المواسير، وقد يجد المنشآت الصغيرة كالمدرسة الابتدائية والروضة و(الشفخانة) والنادي. لكن ما لا يعرفه الزائر العابر أن كل هذه المنشآت تمت بالعون الذاتي. كل هذه المنشآت في قريتي، لكن باستثناء (الشفخانة) التي أنشأتها الحكومة عام 1927 .. كلها تمت بتعاون أهل القرية وعلاقاتهم الجيدة بأهلهم في مدن السودان الأخرى، وبأهلهم خارج السودان. ليس ذلك وحسب بل وحتى التجديدات والصيانة الدورية كانت تتم من حر مال هؤلاء الأهل. أذكر النفير الذي تم لإنشاء شبكة المياه، والنفير الآخر لمد خطوط الكهرباء، والنفير الثالث الذي تم في فيضان النيل عام 1988 .. كلها كانت تبدو أشبه بالأحلام لكنها تنفذ في النهاية بعزيمة الرجال. هنا أذكر حكاية طريفة، فقبل سنوات طويلة بدأ الناس يتكلمون عن إنشاء شبكة مياه توصل الماء لكل بيت. أحد أعمامنا الساخرين قال لي : أنا أفهم أن الإنسان ينام ويحلم، لكن لا أفهم كيف يحلم وهو مستيقظ؟.. قال هذا الكلام الساخر مستنكرا كيف يفكر الناس في إدخال المياه لمنازلهم في هذه القرية النائية. لكن سخرية القدر كانت أبلغ، فقد أدخلت شبكة المياه في القرية بعد ثلاث سنوات فقط من وفاة هذا العم الساخر. لقد كان الخيار المطروح على أهلنا التفضيل بين أن يشدوا سواعدهم ويعملوا وينجزوا، وبين أن يعتمدوا على المساعدات ويجلسوا القرفصاء ينتظرونها، أو يقولوا إن هذه مسئولية الحكومة، وينتظروا حكومة لا تملك إمكانيات المساعدة خصوصا في فترة ما قبل البترول. فإذا طال الانتظار ولم تأت المساعدات تسرب اليأس وفتح أبوابا أخرى نعرفها جميعا. وبعد .. شكرا للأخ (أ ت ص) على تعليقه، فمثل هذه الكتابات تعجبني، فهي خالية من الغمز واللمز، وخالية من سلبيات التذمر والشكوى وكل الدعاوى السلبية، وخالية من الدعوة إلى التمرد، وفي نفس الوقت مليئة بالأفكار الايجابية التي تدعو لبذل الجهد، ولمساعدة الناس لأنفسهم قبل أن يطلبوا من الآخرين مساعدتهم. مرة أخرى شكرا للأخ (أ ت ص).