فى آخر ندوة دورية لمعهد عبد الله الطيب شارك فيها الشاعر الراحل تاج السر الحسن منتصف العام قبل الماضي، استمعت لآخر مرة لرائعته (آسيا وافريقيا) مباشرة من حنجرة فنان، فقد تغنى بها بطلاقة المبدع عاطف عبد الحي، وانتشى الراحل وقتها طربا وذكريات, فعصاته التى لاتفارقه أخذ يهش ويبش بها طربا، كان ذياك النشيد هو المعبر له ولكابلى لتعريف كامل بهما فى المحفل الادبى والإبداعى العربى والافريقى قبل المحلي، تلك الندوة خصصت لشعره ودراسات نقدية حوله قدمها د.محمد المهدي بشرى وأبوعاقلة ادريس والذى يعتبر من تلاميذ الراحل النجباء وقد ودعه بكلمة عارف لمعروف الراحل بمقابر البندارى عشية قبره اول امس. الراحل تاج السر الحسن، ولد بحى الكاسراب بجزيرة ارتولى بنهر النيل فى عام 1935، وعاش جزءا كبيرا من صباه بالنهود حيث استقرت اسرته هناك لفترة فتشبع بروح الادب الكردفاني وطقسه، كان حريصا على ان يقضى اجازاته فى منطقة ارتولى التى ما غاب عنها فى العيدين، وبعد أن أتم دراسته الثانوية التحق بكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف وتخرج فيها 1960 , ثم سافر إلى موسكو والتحق بمعهد ماكسيم جوركي للآداب فى العام 1962, وتخرج فيه 1966 ثم حصل على الدكتوراة 1970 . وفى حديث سابق للراحل كان يقول ان نشيد (آسيا وافريقيا) صار جزءا من سيرته الذاتية، النشيد الذى جعله فى صف الإبداع الافريقى والعربى الاول، وكانت أولى قصائدة (الكوخ) ابان تردده على منتدى عبد الله حامد الامين فى بواكير الشباب بامدرمان وهناك التقى صنو روحه الشاعر جيلى عبد الرحمن وقد صدر لهما كتاب قصائد من السودان ويعد مرجعا أدبيا ذا قيمة. دراسته بروسيا فتحت له مدارك معرفية ثرة وانفتح على الثقافات الاوربية القديمة ونهل من معينها وانعكس ذلك على شعره ودراساته الادبية، فمكتبة الإذاعة السودانية تضم له عددا من القصائد, وله العديد من دواوين الشعر والمؤلفات الأدبية والسياسية، ومن أشهر إرث قصائده: القلب الأخضر - قصيدتان لفلسطين - النخلة تسأل أين الناس - الآتون والنبع , ومن مؤلفاته : بين الأدب والسياسة - قضايا جمالية وإنسانية - الابتداعية في الشعر العربي الحديث , بالإضافة إلى نشره العديد من الترجمات من الروسية إلى العربية. لكن تاج السر الحسن رغم شهرته التى طبقت على الآفاق بعيدا عن مجتمعه، يقول عنه الاستاذ عبد المنعم محمد من ابناء عمومته بجزيرة (ارتولي) ان الراحل كان حسن التواصل الاجتماعى ومرتبط بقريته يزورها فى حياته بين الفينة والأخرى حتى أعجزه المرض وعامل السن، واضاف: كنا ننتظر قدومه ونتحلق حوله لنسمع شجي الحديث المشبع عن السياسة والادب والرحلات، كما انه كان عارفا وملما بالانساب ومهتما بها، من مميزاته انه كان طويل البال رفيع الخلق، وتزوج الراحل ابان دراسته بالاتحاد السوفيتى من زوجته (البينا) وهى من موسكو ، واكرمه الله بدخولها الاسلام على يديه وتوفيت فى رمضان قبل الماضى وهى صائمة، وله منها ابن وحيد اسماه على والده (الحسن) ويعمل بالمملكة العربية السعودية حاليا. لم يتوقف إسهام الراحل فى المحيط الادبى المحلى، فقد كانت مشاركاته المستمرة فى (المربد) بالعراق ينتظرها المستشرقون والادباء معا، ونال كثيرون منهم درجة الدكتوراة بينهم الناقدين المعروفين فى المحيط العربي د.محمد النويهي, ود.مصطفى هدارة ، غير جوانب اخرى انفتحت على البحث فى الادب السودانى بعد انتشار نشيده (اسيا وافريقيا) للدرجة التى صار به معلما ادبيا نهل الشعر من على يديه الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي والذى كان تلميذاً له ولجيله من الشعراء السودانيين الذين درسوا بمصر . ويقول الاستاذ على مهدى رئيس مجلس المهن الفنية إن الراحل تاج السر الحسن يعد علامة بارزة فى تاريخ الشعر العربى والقصيدة الفصحى عموما، واضاف مهدي: ان شهرته الى العالم الخارجى سبقت الراحل الطيب صالح وتعدتها بعد تغنيه شعرا وانحيازه لمؤتمر باندونق فالقصيدة انتشرت واشتهرت قبل ان يغنيها الاستاذ عبدالكريم الكابلى فى العام 1960 ويستقبل بها جمال عبدالناصر القادة العرب الذين شهدوا قمة اللاءات الثلاثة بالخرطوم، واعتبر مهدى الراحل تاج السر من التقدميين فى عمل أناشيد ذات فهم ومضمون لمتطلبات المرحلة فى ذلك الوقت والغناء للثورات والثوار، وفتح المجال لمبدعون شباب حينها للتطرق الى المجال والتغنى للحربة بغناء يفهمه العالم ويحسه ، ومنح الفصحى مكانتها فى المخاطبة شعرا ونثرا، كما انه تفتح ذهنه على العالم واقامته بالخارج جعلته قريبا من الاحداث العالمية ومعايشا لها لذا عبر عنها بعمق وصدق . كان الراحل تاج السر مقربا من والده الخليفة الحسن التاجر الشهير الذى عمل فى النهود بكردفان مطلع ثلاثينيات القرن الماضي ، كانت تربطه بشقيقه الراحل الشاعر الكبير الحسين الحسن علاقة صداقة ومفاكرة مستمرة. ويقول الشاعر اسحق الحلنقى ان العلاقة الوطيدة التى جمعت بين الراحلين تاج السر والحسين انعكست على شعرهما الصادق والذى ظللنا نفاخر به فى المحافل الخارجية، فهما عبرا عن الوطن بصدق وجعلا من الارض بها لمحة من السماء ، تغنى السر للثوار حول العالم وهذا وعى متقدم عنده كشاعر ومفكر لم يكن لغيره وقتها. واضاف الحلنقى : ان تاج السر رغم براعته فى الادب لم يكن ميالا للظهور والشهرة، ولكنها قدمت اليه دون ان يريدها باعمال خلدت الادب السودانى فى الخارج قبل ان تخلد ذكراه هو، فهو لا يقل عند الآخرين مثل شعراء عبروا محيطهم المحلى الى الخارجى كسميح القاسم ونزار قباني ومحمود درويش.. فالكلمة عنده جمعت بين الفكرة والمضمون ، والخنجر و الوردة. كان الراحل مشاركا فاعلا فى المشهد الادبى خمسينات وستينات القرن الماضى مع مجموعة من الشعراء السودانيين بينهم جيلي عبد الرحمن و محيي الدين فارس ومحمد الفيتوري فى الوقت الذى كان فيه الشاعر المصري صلاح عبد الصبور لا يفارقهم . آسيا وافريقيا التى كتبها الراحل معبرا عن انحيازه لدول عدم الانجياز التى انعقدت قمتها فى باندونق 1955 وضمت وقتها الزعماء الراحلين ناصر والزعيم اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو والقائد الهندي البانديت نهرو) كانت تمثل آمالاً عريضة لشعوب العالم الثالث، وبعد انتشار النشيد التاريخى مطلع ستينيات القرن الماضى بصوت الأستاذ عبدالكريم الكابلى انفحت آمالا عريضة للراحل فى ان يواصل فى مجال الأدب والشعر ، الكابلي لحن النشيد وغناه أمام الرئيس جمال عبد الناصر بالمسرح القومي بأمدرمان أثناء زيارته للسودان.. من يومها صار ادب تاج السر الحسن مطلوبا بالداخل والخارج. قبل رحيله بفترة كان الراحل يدرس ويحلل فى نصوص تتعلق بموجة التنقيب العشوائى للذهب فى ولايته بنهر النيل، القصائد التى تحكى عن حظوظ المنقبين وعثراتهم ولها كثير من الابداع، وكان ينوى ان يكتب عنها دراسة ادبية وتحليلية، خاصة وانه غير براعته فى الشعر، كان بارعا فى اكتشاف المواهب الشعرية، يرعاها ويقومها،ويطالبها بالمزيد من الاطلاع ولو من مكتبته الخاصة التى تحتل ثلثى بيته الأثري بضاحية الحاج يوسف بشرق النيل، كان حريصا على ان تبقى تفاصيل البيت العتيق كما لو ان والدته الراحلة تمكث به، ترك ابوابه وشبابيك اخشابه كما هى منذ بنائه فى ستينيات القرن الماضي. مساء الاثنين الماضي، غيب الابداع ورحل تاج السر الحسن، صاحب (الأناشيد القديمة) وترك شعره وسيرته الحسنة يتجددان.