في الساعة العاشرة والثلث، أي قبل عشر دقائق فقط من موعد حوار اتفقت على إجرائه مع الفريق جيمس واني إيقا، وصلت إلى مكتبه. كان الفريق عبد العزيز آدم الحلو يتحرك جيئة وذهاباً أمام باب المكتب وهو يحمل الكثير من الأوراق في انتظار أن يأتي دوره للدخول على رئيسه.. شعرت لبعض الوقت بأن الحوار سيتأجل لأن الحلو الذي يبدو أنه جاء إلى هناك دون ترتيب مسبق سيدخل بمجرد أن ينصرف من هم بالداخل. وعندما إنصرفوا في تمام العاشرة والنصف، جاءت سكرتيرته الحسناء تتقدمها نصف ابتسامة لتقول لي بأن إيقا ينتظرني فدخلت ، وبقى الحلو في قلقله ذاك وانتظاره لساعة أخرى، بل أكثر في الواقع، لأن إيقا لم يشعرني بأنه كان في عجلة من أمره، ولم أكن أنا أكثر حرصاً من إيقا على موضوع الحلو بالطبع، فكانت تلك الساعة في مكتبه بالمقرن في مثل هذه الأيام من العام 2008م كافية لأعرف بعدها أي رجل هو، ولماذا كان يناديه الرئيس البشير، بالرئيس، حتى قبل أن يصبح نائباً لرئيس دولة الجنوب منذ أمس الأول. الجلوس على كرسي مشار بالأمس، حملت الكثير من المراصد الصحفية نبأ تعيين الرئيس سلفا كير لجيمس واني نائباً له في رئاسة دولة الجنوب خلفاً لرياك مشار، وأعلن التلفزيون الرسمي لجنوب السودان القرار الذي أنهى الكثير من التكهنات بشأن المنصب الذي ظل خالياً لثلاثين يوماً منذ إقالة سلفا كير لمشار في الثالث والعشرين من الشهر الماضي. ويجىء تصعيد سلفا كير إلى جيمس واني بعد سلسلة من القرارات والإجراءات التي اتخذها في الأشهر الفائتة لترتيب الوضع الداخلي والتخلص من منافسيه وبعض المتنفذين في الحزب والحكومة من قبيل رياك مشار وباقان أموم ودينق ألور وكوستا مانيبي وقيادات في الجيش الشعبي الأمر الذي يتوقع البعض أن ينعكس إيجاباً على العلاقات مع الخرطوم لجهة أن أغلب المبعدين كانت لهم مواقف عدائية ضدها، بينما يذهب آخرون إلى أن ما يحدث هناك هو محض شأن جنوبي ولا تأثيرات له على السودان. واني في الميزان جيمس واني إيقا ، الذي كان يعمل موظفاً بالشركة السودانية للتأمين في الخرطوم، قبل أن ينضم للحركة الشعبية، يراه البعض ضعيفاً بصورة لا تؤهله للجلوس على كرسي سلفه د. رياك مشار في منصب نائب رئيس الجمهورية، ويقول خصومه إن جيمس واني إيقا شغل الكثير من المواقع دون أن يملأ أي واحد منها بجدارة. بينما يرى آخرون عكس ذلك في الفريق جيمس واني إيقا، ويعتبرونه مثالاً للسياسي البراغماتي الذي يتعاطى مع الأمور بحكمة يملك منها الكثير، فضلاً عن إمتلاكه لرؤية جعلته من القلائل الذين يفكرون الآن للحركة الشعبية خاصة بعد إبعاد باقان أموم أوكيج. ينتمي جيمس واني إلى قبيلة الباريا، وهو من الإستوائيين الذين يعتبرون السكان الأصليين لحاضرة دولة جنوب السودان جوبا. ويعتبر من المقربين من سلفا كير الذي استطاع حشد تأييد كبير لخطواته الأخيرة، واستطاع كذلك ضمان أكبر قدر من التأييد القبلي الذي أضاف إليه الكثير بتعيين أحد رمز الإستوائيين في الجنوب نائباً له. كثير من اللجان والمهام آخر لجنة رأسها جيمس واني إيقا قبل صدور مرسوم بتعيينه نائباً للرئيس، كانت للتحقيق مع باقان أموم أوكيج، حيث صدر مرسوم آخر من سلفا كير بفصل الأمين العام للحركة الشعبية وكبير مفاوضي جنوب السودان باقان أموم وإحالته للتحقيق إثر اتهامه بسوء إدارة الحزب وإثارة النعرات القبلية في الجنوب. وفي السابق، كان له دور كبير في انتخابات الجنوب التي رأس لجنتها هناك إلى جانب لجان أخرى. فقد شغل جيمس واني إيقا منصب الأمين العام للحركة الشعبية قبل التوقيع على اتفاقية نيفاشا وترأس وفد مقدمة الحركة الشعبية الذي استبق التوقيع بزيارة للخرطوم، وفيما تقلد الكثير من المهام العسكرية على أيام الحرب فقد أمسك واني إيقا بالكثير من الملفات بعدها، فقد شغل منصب رئيس برلمان جنوب السودان منذ تشكيله في عام 2005 وحتى يوم أمس الأول الجمعة. فضلاً عن أنه ظل نائباً لسلفا كير في رئاسة الحركة الشعبية منذ ذلك التاريخ، وحتى الآن. ليجمع بتعيينه في المنصب الجديد بين ثاني أكبر المنصبين الرفيعين في الحركة والجنوب. تأثيرات صعود وانى قرار إبعاد نائب الرئيس السابق في دولة الجنوب، لم يجد بواكٍ هناك- على الأقل- بصوت مسموع، بينما قوبل بما يشبه السعادة في الخرطوم.. صحيح أن عزل مشار أو إرجاعه حتى أمراً يخص دولة أخرى، ولكن أيادى الرجل الطويلة امتدت للعبث في جسد هجليج وكان وراء حريقها الكبير في أبريل من العام الماضي، ولذلك لم تتعاطف الخرطوم معه عندما جاءها قبل أيام من عزله لبحث أزمة أنبوب النفط حتى لا تعطه (كرتاً) في انتخابات أعلن باكراً أنه سيخوضها ضد سلفا الممسك الآن بكل الخيوط، بينما لم يتردد الرئيس البشير من القبول بطلب سلفا بتمديد مهلة إغلاق الأنبوب. ومن هذه الزاوية، ربما يكون صعود رجل مثل جيمس واني إيقا لموقع الرجل الثاني في دولة الجنوب مشجعاً على حلحلة الملفات العالقة بين البلدين والمضى بحكومة الجنوب في اتجاه أن تكف عن دعم المتمردين على الحكومة السودانية بصورة تخرق الإتفاقات الأمنية الموقعة وتضطر الحكومة لإغلاق أنبوب نفط الجنوب كرد فعل مضاد في الاتجاه وإن لم يكن مساوياً في المقدار. ولكن في ظل الاستقطاب الذي يشهده الجنوب والمزاج الإعلامي الرافض للتقارب مع الحكومة في الخرطوم قد لا يستطيع واني فعل شىء ملموس خشية أن يوضع في دائرة اتهام لا يرغب فيها بالطبع، بل ربما اضطر للمزايدة في مواقفه حتى يؤكد أنه أكثر حرصاً على مصالح الجنوب من سابقه حسبما أكد ذلك ل (الرأي العام) المحلل السياسي بالجنوب دينق بول. مشاركة باعثة على الظنون جيمس واني، كان من أكثر قيادات الحركة الشعبية عقلانية فيما يبدو على أيام نيفاشا، وفي ذات الحوار الذي أجريته معه، كانت مواقفه متامشية مع مواقف المؤتمر الوطني في رفض التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية وقضايا أخرى، بما في ذلك ترشيح البشير للرئاسة، فقد اعتبر ترشيح البشير للرئاسة في الإنتخابات الفائتة ضماناً لتنفيذ الإتفاقية، وحذر من أن شخصا آخر سيأتى غير البشير سيُكسِر السودان على حد قوله. ثم وصف في حوار آخر قرار انسحاب ياسر عرمان من السباق الرئاسي بالمؤسف، وقال لى إن هذا القرار جعل البعض في قطاع الشمال يفكر في الانتحار. ومن المواقف التي تبعث على المظان السيئة لجيمس واني هو مشاركته في تدشين حملة عبد العزيز الحلو الإنتخابية بعد انفصال الجنوب، وهو الأمر الذي انتقده د. نافع علي نافع وقتها بالقول: (إن هُنالك عددا من قيادات الحركة الشعبيّة حريصة على أن ترتبط بالشّمال من خلال الحركة الشعبية وكان طموحهم الذي لا يجب أن يفكر فيه شخص سياسي مُحنك أن تكون الحركة الشعبية في الشّمال و الجّنوب جسما واحدا تحكم الجّنوب و تصر على العبث بالشّمال و تبحث عن هذا السّراب الذي يسمونه (السُّودان الجديد). وكان واني قد قال وقتها في تدشين حملة الحلو بكادوقلي إنهم سيدعمون الحلو ولن يتخلوا عنه مهما حدث. وأشار حسب ما نقلت عنه صحيفة أجراس الحرية المتوقفة إلى تقديمهم كامل الدعم لها عقب فك الارتباط في التاسع من يوليو، فهل سيضع واني وعده ذاك موضع التنفيذ، أم أن ذلك الحديث كان تعبيراً في زمان مضى، ومضت مواقفه كذلك بعد أن أصبحت العلاقة الآن أمام معطيات جديدة تجعل حديث واني السابق منتهي الصلاحية؟!. رجل لا يمكن التنبؤ به العالمون ببواطن الأمور في الحركة الشعبية وحدهم يعلمون أن الفريق قصير القامة جيمس واني إيقا الذي يتمتع بثقل سياسي واستوائي جعله على درجة من الطول يصعب القفز من فوقه داخل الجنوب، يصعب التكهن بمواقفه، واتجاهاته المقبلة، فهو يحيط تحركاته بسرية تامة ويخفي مواقفه بضحكة كثيراً ما يطلقها مثل دخان لإخفاء موقفه في قضية ما. فقد كان جيمس واني إيقا أكثر الناس حديثاً عن الوحدة وإمكانيتها، وقد قال لى في حوار آخر أجريته قبل أشهر قليلة من الإنفصال، إن الوحدة ممكنة ونص وخمسة -على حد تعبيره، وأنهم يعملون فوق طاقتهم لتحقيقها فيما تبقى من زمن على الإستفتاء الذي لم يكن يعنى له فيما يبدو سوى الإنفصال. فهو ينطبق عليه دائماً الوصف بالسياسي المراوغ والماكر بصور تصعب التكهن بمواقفه، أو ما إذا كان سيكون رجل حرائق أو رجل إطفاء في المرحلة المقبلة.