(التاريخ ذاكرة الأمة) بهذه القاعدة تصنع الشعوب أمجادها المتشبعة بالانتماء لماضٍ مشتعل يصقل الحاضر ويضيئ طريق المستقبل، بهذه القاعدة يتحدث الكثيرون من منظري الأمم والشعوب نخباً ومثقفين، بحثاً عن معادلة تجعل الأجيال القادمة تحتفظ بخصوبة الاعتزاز بالنفس والاعتداد ويهيئها لامتلاك الدوافع للدفاع عن استقلال أُمتها والحفاظ عن حريتها والعيش بكرامة وكبرياء.. (التاريخ ذاكرة الامة) عبارة جسدها الفريق أول سلفاكير ميارديت رئيس جمهورية جنوب السودان القادمة من ضلع السودان كأحدث دول العالم، جسدها وهو ينحني لتاريخ دولته الأُم في رمزها اللوني المحفور داخل قلبه، قبل أن يتطرز على قماش علم، ليؤكد الرئيس سلفاكير قدرته على صناعة دولة عظيمة طالما لقادتها القدرة على قراءة واحترام التاريخ.. انحناءة الرئيس سلفاكير ميارديت التي وصفتها التقارير الاعلامية بالمفاجأة، جاءت اثناء سيره الى جوار الرئيس البشير متفقداً حرس الشرف في ثاني زيارة لسلفاكير للخرطوم، ما اثار عواصف من المشاعر الجياشة ومنحت زيارته طابعها الدافئ لعلاقة كم أنهكتها برودة الموت، ليتردد في كلتا العاصمتين (لا يعي قدر الكبير الا الكبير).. انحناء الرئيس سلفاكير ميادريت للعلم السوداني أمس الاول، مثل خطوة لها دلالاتها ومغزاها السياسي لدى الكثيرين، والعاطفي لدى آخرين، لكنها في كل الاحوال تتفق على أن الرجل ابدى تبجيلاً لرمز السيادة السوداني بسلوك لا يمكن التعبير عنه بأبلغ اللغات ومهما تعاظمت تكنيكات اللغة، خصوصاً اذا تم النظر للموقف في سياق التعبيرات الضمنية للاعلام.. الانحناء في مقابل العلم لا يعد أمراً ذا بال، حال مورس من قبل رعايا العلم نفسه والمنتمين اليه، بيد أنه يكون ذا مدلول آخر حال جاء الفعل من رعايا دول أخرى أو من قبل قيادات سياسية لدول اخرى، وفي ذلك لم يكن الرئيس سلفا الاول أو الاخير ضمن سيناريو الانحناءات، وطبقاً لبحث (الرأي العام) فإن أبرز الانحناءات الدولية التي مورست في سلوك يماثل سلوك الرئيس سلفاكير ميارديت، كتعبير عن اعتزاز وتقدير وجداني لتاريخ تجربة واحتراماً للتاريخ، ورصدتها عدسات الكاميرات الدولية، كانت لواشنطون فيها نصيب الاسد وبرزوا فيها بسخاء ومارسوها في مواجهة بعضهم البعض، ونقلت تقارير اعلامية مشهد انحناء الرئيس السابق للولايات المتحدةالأمريكية بيل كلينتون لدى استقباله الرئيس الحالي باراك أوباما بمناسبة قبول ترشيح أوباما لخوض الانتخابات الرئاسية للمرة الثانية، بيد أن أكثر الانحناءات ضجيجاً سجلها أوباما نفسه، طبقا لرصد(الرأي العام) بانحنائه للعلم الفلسطيني في مارس الماضي لدى زيارته للاراضي المحتلة وتحديداً الضفة الغربية، ليستقبله الرئيس الفلسطيني محمود عباس برام الله، ليستمع لأول مرة للنشيد الوطني الفلسطيني، وينحني بعدها للعلم الفلسطيني في حادثه وصفت بالفريدة واثارت غضب اليمين المسيحي المتطرف والمتحالف مع اللوبي الصهيوني بأمريكا.. للتاريخ سطوته ودينه في عنق الاحرار، بهذا المعنى جاءت في أغسطس الماضي من قبل الرئيس الامريكي باراك أوباما حينما انحنى لحفيدة مارتن لوثر كينغ يولاندار ريني، ذات الخمس سنوات، لدى صعوده درجات نصب (لنكولن) التذكاري ليلقي كلمة احتفالاً بالذكرى الخمسين لمسيرة الحقوق المدنية التاريخية بالولايات المتحدةالامريكية التي قادها الزعيم الأمريكي مارتن لوثر كينغ، وأهداها(دمية) الا أن رد فعل الطفلة كان بارداً تجاه خطوة الرئيس الامريكي طبقاً لوصف وكالات الانباء. أوباما لم يكن الوحيد الذي احترام التاريخ وتجارب العظماء من المساهمين في صياغة طريق التحرر للشعوب، واستبقه في ذلك الرئيس الإيطالي برلسكوني الذي انحنى احتراماً وتبجيلاً لذكرى المناضل الليبي عمر المختار، ليقوم بذلك أمام محمد نجل المختار في فبراير من العام 2011 م .. اوباما عاد مرة أخرى للاضواء على خلفية انحنائه بمقدار نصف قامته امام امبراطور اليابان اكهيتو، وتم تفسير ذلك بعيداً عن القيم المرتبطة بالاحترام، واعتبرت الانحناءة مرتبطة بقصر قامة الامبراطور ليس إلا.. بيد أطرف الانحناءات الرئاسية أو الملكية ونجحت العدسات في نقلها، جاءت لدى تعثر الاميرة موزة السيدة الاولى بقطر خلال موكب رسمي في مايو من العام 2011 م، ما أدى لأن تخلع حذاءها ليسارع أمير قطر بالانحناء في مواجهتها والتقاطه. ابريل شهر الكذبات، أو هكذا يعرف ويشاع، وأختاره أوباما لينحني في العام 2009 م امام الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود لدى مشاركتهما في قمة قادة مجموعة العشرين في لندن، حيث كانت تلك هي المرة الاولى التي يلتقي فيها الرئيس الأمريكي بالعاهل السعودي، ليثير المشهد عاصفة من التحليلات، و وصف البعض حينها خطوة اوباما بأنها (دليل ضعف)، فيما فسر آخرون الامر كدليل على أن أوباما مسلم ويريد التقرب من المسلمين، وفريق ثالث اعتبرها دليلاً على العلاقة القوية التي تربط واشنطون بالرياض. الخرطوم نفسها لم تخلُ من مفارقات اخرى للانحناء، وتم النظر لانحناء د. الطيب ابراهيم محمد خير للنائب الاول علي عثمان محمد طه في فعاليات المؤتمر الثامن للحركة الاسلامية ، باعتباره نوعاً من الامتنان على السماح للرجل بالعودة الى دائرة الاضواء بعد الاختفاء ردحاً من الزمن. العادة جرت عموماً في كل دول العالم باتخاذ الوان الاعلام والشعارات والأوسمة والنياشين كدلالات رمزية لما حملته تجربتها التاريخية، وما مرت به من مواقف حتى أصبحت دولاً مستقلة ذات سيادة، وكذلك للتعبير عن وحدتها وتماسكها وقوتها، بيد أن ثمة خطأً شائعاً في التعبير عن الشعار والعلم وأحياناً أخرى الراية بتداخل غير مقصود، وبحسب الموسوعة فإن الراية ما هي إلا رمز لشيء معين، غالباً يكون مؤقتاً ومرتبطاً بحدث محدد وبمدى زمني معين، ينتفي توظيفها أو استخدامها بنهايته، وهو ما يختلف عن الشعار الذي يتخذ طابعاً رسمياً كشعارات الشركات والمؤسسات والهيئات والمنظمات والجمعيات، لتبلغ الرسمية قمتها في اتخاذ الدول لشعارات خاصة بها، أما العلم فهو مقتصر على الدول فقط، لكنها تشترك في توصيل رسالة معينة أو التذكير بفكرة محددة أو إثارة احساس مشترك لدى المجموع بالإضافة للمعنى التعريفي المباشر، ويلاحظ في هذا السياق تعدد استخدام أشكال محددة في شعارات الدول، توظيف الحيوانات والطيور لتوصيل ما يراد ايصاله، فالدول العربية على سبيل المثال توظف السيف والخنجر والنسر والصقر والنمر والأسد للايحاء بالقوة والترهيب، بالرغم مما يخلقه ذلك من تناقض مقارنةً بالواقع العربي اليوم، وتبرز فيه مصر واليمن والسودان والكويت.. وفي المقابل فإن كثيرا من الدول الأوروبية تحتفي بكونها راعياً للكنيسة ومصالحها وللدين المسيحي، فترفع الصليب شعاراً وفي مقدمة ذلك الدول الاسكندنافية، أما الجنوب كونه آخر الدول المستقلة حديثاً، لم يشأ الانفلات من سطوة واسر التاريخ ابان السودان الموحد ، فأختار النسر الكاسح شعاراً، في محاولة للايحاء بغير الحقيقة في بنية الدولة الجديدة، خصوصاً وأن النسر يعتبر من أبرز رموز ودلالات القوة. السودان وطن مخضب بجراحات المشاريع الباحثة عن معادلة مفقودة بين العقل والإيمان، رفع علمه الحالي رسمياً في عام 1970م ولم ينكس أخيراً في وفاة د.قرنق في جنازة رسمية باعتباره النائب الاول لرئيس الجمهورية.. الخرطوم قبيل الحقبة النميرية سبق لها أن اتخذت ابان الاستقلال عام 1956م علماً غير باقي أعلام الدول العربية ربما بدافع تأثرها بحركات التحرر الافريقية، فجاء أقرب إلى الأعلام الإفريقية، وتألف من ثلاثة نطاقات أفقية متساوية، ألوانها الأزرق تحته الأصفر يليه الأخضر، وفسرت هذه الألوان بأنها ترمز إلى النيل والصحراء التي تحده وخصوبة الأرض التي يرويها النيل، إلا أن حكومة مايو عندما جاءت للسلطة عام 1969م سعت لاعادة صياغة السودان وانتماءاته، فأعلنت عن مسابقة لتصميم علم جديد يعبر بشكل أكبر عن روح الوحدة العربية، ليفوز التصميم الحالي الذي وضعه عبد الرحمن أحمد الجعلي، ويتألف من مثلث أخضر قاعدته إلى السارية على خلفية من الألوان الثلاثة الأحمر والأبيض والأسود ليعود مقارباً لاعلام الدول العربية في أغلبية ألوانها وتصميماتها، ليرفع رسمياً في 20 مايو 1970م، ويرمز اللون الأحمر للكفاح وشهداء الحق والوطن، فيما يرمز الأبيض للسلام والطبيعة المتسامحة في السودانيين والتفاؤل والنور والمحبة، ويقال إن الأسود يشير للسودان والثورة المهدية، والأخضر للرخاء والخير والزرع، يضاف الى ذلك اتخاذ السودان شعار صقر الجديان رمزاً للقوة والهيبة بالرغم من انتشار نسخ من العلم خالية منه. الجنوب في هذا السياق يتسق مع ما جرت عليه العادة، لكنه لم ينفصل عن ثقافة شماله الذي قرر الانفصال عنه، باتخاذه لشعار النسر المرتبط الى حد بعيد بالثقافة العربية التي قرر عبر الاستفتاء الأخير الانفصال عنها باعتماد اللغة الانجليزية لغة رسمية للبلاد، بيد أن الجانب الآخر لاختيار القادة بالجنوب شعار النسر، يبدو منطلقاً من ذات بنية الخداع الذاتي والنفسي التي أدمنتها الذهنية العربية في تصوير الواقع العربي بعكس ما هو عليه، وينسحب ذلك على الجنوب نتيجة لعوامل الضعف التي تشكل جزءاً من مكوناته ، أبرزها الروح القبلية المتفشية التي تقف حجر عثرة في طريق توحيد المجتمع الجنوبي وبالتالي الولاء والانتماء الوطني الكلي، مروراً بكونها دولة مغلقة، مروراً بانعدام مواردها باستثناء النفط القابل للنضوب، مروراً بالمهددات المحيطة بسبب أطماع وطموحات دول مجاورة بما في ذلك الشمال بحسب رأي القيادات الجنوبية، لكن المؤكد أن الجنوب وهو يتخذ من النسر شعاراً وقع أسير أعراف جرت عليها دول العالم، بالرغم من احتفاظه حال تبني علم الحركة الشعبية علماً له بالنكهة الأفريقية في استخدام الألوان. خطوة سلفا التي تناولتها وكالات الانباء، مثلت مفردة نشاز في سيناريو التجريح الماثل في علاقة الدولتين خلال العامين الماضيين ، لكنها لم تكن السابقة الأولى في تبجيل جوبا للتاريخ وتأكيد احترامها لما قبل ان تكون دولة مستقلة برغم سوءات العقدين الماضيين، وهو ما أكده مطلب القيادة الجنوبية اثناء رفع العلم الجنوبي في التاسع من يوليو 2011 م وانزال العلم السوداني ورفضه تسليم الاخير من أجل الاحتفاظ به في المتحف القومي الجنوبي، في خطوة عدها المراقبون من أنبل وأجمل المشاهد التي لا تنطبق الا على السودانيين مهما كانت هوة الاختلاف السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، ونقلت تقارير اعلامية حينها مشهد إنزال العلم السوداني وطيّه وتسليمه لجوبا متزامناً مع ملامح للحزن والالم والدموع المكافحة للظهور في وجهي العقيد ياسر ياور الرئيس، وعاطف محمد عبد الرحمن مدير إدارة المراسم برئاسة الجمهورية، آخر من لمسا رمز السيادة السوداني في آخر لحظاته على ثلثه الجنوبي.. أقوى التصريحات الماً واكثرها وجعاً حملتها التقارير وقتها على لسان عبد الرحمن أحمد الجعلي مصمم العلم السوداني الحالي، واوردتها صحيفة البيان الإماراتية بأنه كان يتمنى الموت قبل أن يرى بعينيه مشهد إنزال العلم في جوبا، وأنه لم يتمالك نفسه في تلك اللحظة فأجهش بالبكاء..