منذ أن خرج الوسيط الأفريقي ثابو امبيكي من مقر إقامة الرئيس البشير وهو يذيع على الملأ جاهزية حكومة البشير للانخراط في حوار مع قطاع الشمال، لقد كانت كلمات امبيكي واضحة ومُحدّدة: «إنّ الحكومة جاهزةٌ ومُستعدة للتباحث والتفاوض حول قضايا المنطقتين ومُناقشة المشكلات بشأنها مع الحركة الشعبية قطاع الشمال». «لم تنقض بضعة أيام على تلك التصريحات حتى نفى وزير الخارجية السوداني أيِّ توجهات داخل النظام للتفاوض مع قطاع الشمال بل إنّ علي كرتي الذي حصر التفاوض على أهل المنطقتين سحب أيِّ إعتراف بالقطاع الذي طالما دارت جولات من التباحث والتفاوض معه في مدن وعواصم أجنبية وهو يقول: «ليس هنالك ما يُسمى بقطاع الشمال في التفاوض، وهناك ما نعرفه بأهل المنطقتين». بيد أنّ الإشارة لمناقشات مع قطاع الشمال كانت حاضرة في تصريحات امبيكي التي نقل من خلالها ما دار بينه وبين البشير في ان تحمل تصريحات الوزير كرتي تبدلاً في الموقف الحكومي، ان الأمر يتعلق بحالة الارتباك التي تتبدى دائماً في مواقف الحكومة. إلى ذلك، فإنّ تصريحات سابقة للوزير كرتي في هذا الشأن تخبر أن الرجل لا يؤمن أو لا يثق في رغبة القطاع وإقباله على طاولة التفاوض على نحو ما صرّح به للأمين العام للأمم المتحدة على هامش اجتماع للجمعية العامة بنيويورك: «إنّ الإستقبال الذي يُحظى به قادة المجموعات المتمردة بجنوب كردفان والنيل الأزرق في بعض العواصم يجعلهم غير حريصين على السلام لأنهم يجدون الدعم من تلك الدول». استناداً إلى ذلك واعتماداً على حديث سابق للوزير كرتي يُمكن أن تنطلق مجموعة من التساؤلات حول درجة الاتساق والتناغم بين أداء هذه الأجهزة وتصريحات قياداتها، لا سيما وأن ذات وزارة الخارجية أقالت بالأمس أحد سفرائها على خلفية رفضه استقبال السودان لوزير خارجية الحكومة الانقلابية في مصر، فإلى أية درجة يتوافر التنسيق الذي تبنى عليه المواقف الموحدة والراسخة من القضايا لا تشوبها شائبات التناقض والتضارب؟ الوزير كرتي نفسه يقدم حجة قوية يمكن أن يعتمد عليها من يدعم التوجه إلى التفاوض مع قطاع الشمال استناداً لتصريحات الوسيط امبيكي التي قال فيها انّ البشير أبدى جاهزية حكومته «لمناقشة المشكلات في المنطقتين». الوزير كرتي، ذهب في أعقاب زيارة سفن حربية إيرانية لميناء بورتسودان خلال هذا العام يصف وزارة الخارجية «بأنها مُغيّبة خارج دائرة الفعل والقرار وأنها «آخر من يعلم» بل إنّ الوزير كرتي صرّح لقناة تلفزيونية: «إنّ وزارة الخارجية علمت بوصول البوراج الإيرانية لميناء بورتسودان من وسائل الإعلام»، مُستطرداً: «الخارجية آخر من يعلم» فما هو مدى علم وزارة الخارجية بحقيقة موقف الحكومة من التفاوض مع قطاع الشمال، بل إنّ السؤال الذي يقوم في مواجهة الوزير كرتي بناءً على رفضه التفاوض مع قطاع الشمال ما هي الوسائل التي يمكن اعتمادها توصلاً إلى حلول مع حملة السلاح في المناطق المتأزمة بالحرب وعلى أيِّ أساس قامت الجولات السابقة من التفاوض التي انفضّت أخراها نحو خواتيم أبريل من هذا العام. حالة الالتباس التي تحيط بالموقف الحكومي تعيد إلى الأذهان حالة الانقسام في المواقف من التفاوض مع القطاع، إذ كشفت مصادر في وقت سابق أنّ قيادات كبيرة في الحزب الحاكم ظلت تنادي بضرورة التفاوض تحت الظروف كافة، مع المضي قدماً في التدابير العسكرية القتالية التي يمكن أن تحجّم غائلة هجمات جيش الحركة الشعبية، بينما ظلّ مُتشدِّدون يتمترسون داخل الحزب والحكومة خلف موقف يقضي بإغلاق باب الحوار وانهاء المتمردين عسكرياً. من جانبها، رأت قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال رفض قادة النظام في الخرطوم للتفاوض بمثابة رفض لقرار مجلس الأمن الدولي (2046). وقال ياسر عرمان: «إن النظام بهذا الموقف الرافض للتفاوض يتحمل تفاقم الوضع الإنساني في الإقليم كما يتحمل استمرار الحرب لرفضه للتفاوض». ربما تجد الحكومة نفسها في حاجة لتوضيح موقفها من جديد على إثر هذه التصريحات التي تزيد من إلتباس الموقف وتزيده غموضاً، بينما يتطلع أهل المناطق المُتأزمة بالحرب إلى حلول تضع عنهم إصرهم والأغلال وتجلو عنهم مأساة الحرب الذميمة. لكن كرتي في الواقع لم يكن أول من رفض التفاوض مع الحركة الشعبية قطاع الشمال، فقد سبق أن أعلن ذلك الرفض مسؤولون كبار في الحكومة ابتداءً من الرئيس البشير نفسه مروراً بنائبيه ومساعده د. نافع علي نافع في أعقاب الاعتداء على «أب كرشولا». فيما ربط البروفيسور إبراهيم غندور التفاوض بتأديب المتمردين. ورغم حديث قرار مجلس الأمن الدولي (2046) عن ضرورة جلوس الحكومة وقطاع الشمال لحل مشكلة المنطقتين، إلاّ أنّ الحكومة تصر على أن الجلوس مع أبناء المنطقتين لحل قضايا المنطقتين فقط، وهو الأمر الذي أكد عليه كرتي وغيره من المسؤولين في الحكومة، فالاشتباك من هذه الزاوية لفظياً فقط، لأن عدم الاعتراف بقطاع الشمال هو رأي الحكومة المعلن منذ الإطاحة باتفاق (نافع - عقار)، ولكن هذا لا ينفي حقيقة الاعتراف بوجود مشكلة في المنطقتين قد يستوجب حلها الجلوس مع أبناء المنطقتين الذين يحملون السلاح أو من يفوضونهم مثل عرمان وغيره من عضوية قطاع الشمال طالما التزموا بالنظر في قضايا المنطقتين فقط.