(1) مدينة النهود، شتاء 1952م. مضى، كان، ما يربو على العام مذ فارقنا أم درمان، لأوَّل مرَّة، مرتحلين غرباً مع والدنا، عليه رحمة لله ورضوانه، في إثر نقله إلى تلك المدينة الكردفانيَّة مساعداً طبياً بمستشفاها الحكومي، ولمَّا نكن، أنا أو شقيقتي الأصغر أميرة، قد بلغنا سنَّ الالتحاق بالمدرسة بعد. أقمنا هناك في حيٍّ مميَّز، قليل من أهله محليون، أما معظمهم فأسر نازحة مثلنا، أربابها موظفو ميري منقولون، أو جلابة يتاجرون في الماشية أو المحاصيل، بعضهم من العاصمة، وبعضهم الآخر من السَّافل أو من الصَّعيد، على وجوههم فصود مختلفات، وعلى ألسنتهم شتى اللغات واللهجات، لكنهم كانوا، مع ذلك، مترابطي العلائق، حميمي الصلات. كان بيتنا، كأغلب البيوت، فسيحاً، واسع الغرف، تنتصب وسط باحته الرَّحبة هجليجة عملاقة، وتنتشر في جنباته شجيرات ليمون وحنَّاء وورد حمير، وكان يطلُّ على شارع رمليٍّ عريض ليس نادراً ما تعبره أسراب النعام، في فصل الجَّفاف، منطلقة تخيفنا بنظراتها الغريبة، وبمناقيرها المتحفزة، وتغمره، أوان فصل الخريف، مياه السِّيول تتحدَّر من وديان بعيدة، حاملة كلَّ ما يخطر أو لا يخطر على البال من أوان منزليَّة، وحطب حريق، وجوَّالات محاصيل، وأثاثات محليَّة الصُّنع، وحصائر سعف ووبر، وبقايا حيوانات نافقة! في الجِّوار منا، على بعد بيتين، أو ربَّما ثلاثة، كان يقوم بيت مختلف عن سائر بيوت الحيِّ، هو بيت الجِّدَّة وردة. خمسينيَّة، مفرطة البدانة، مربوعة القامة، فاحمة اللون، هائلة العجيزة، فارهة الصَّدر، قصيرة الشَّعر، فطساء الأنف، عالية الجَّبين، محمرَّة العينين، غليظة الشَّفتين، قليلة الكلام، غامضة الابتسام! وكانت لها أُمَّة بأكملها من البنين والبنات والأحفاد والحفيدات، مثلما كان لها، في زريبة بيتها، مُراح من الأبقار مكتنزة الضُّروع، حيث كنا نتزاحم، نحن أطفال الحيِّ، حولها، في الصَّباحات الباكرة، نكاد لا نفرِّق بينها وبين بقراتها السِّمان، تبيعنا اللبن الطازج واللقيمات الساخنة، وهي مضطجعة على عنقريبها القصير، شبه عارية إلا من خرقة تنحسر عن جسدها الصقيل الدهين، وشعرها الفلفليِّ الوديك، دائمة الصَّمت، كتمثال أبنوسيٍّ مهيب، لا تندُّ عنها نأمة تذمُّر من ضجيجنا وعجيجنا يطغى حتى على صوت المذياع الخشبيِّ الضخم المفتوح على آخره في نافذة غرفة قريبة، يبثُّ القرآن بتلاوة الشيخ عوض عمر، ونشرة الأخبار بصوت محمد صالح فهمي، وأغنيات الكاشف والتاج والفلاتيَّة وعبد الحميد يوسف وأحمد المصطفى وحسن عطيَّة وغيرهم. (2) ظلت حياة الناس في ذلك الحيِّ تمضي هادئة، رتيبة، وادعة، حتى أيقظنا، ذات فجر باكر، عويل يتعالى من ناحية بيت الجِّدَّة وردة، تتداخل في طبقاته بقايا كوابيسنا مع مرائي فوانيس الكيروسين الكابية، فترتعد الفرائص، وتقشعرُّ الأبدان، ولم يردَّنا، بالكاد، إلى الواقع، ويا له من واقع، غير أن سمعنا والدتنا، عليها رحمة لله ورضوانه، تحادث الجارات من فوق حائطنا الشرقيِّ القصير: «قالوا جو يصحُّوها و .. بَسْ .. أضان الحامل طرشة»! «يا يُمَّة خشم البيت فاتِح .. وهبوبو تكاتِح»! ثمَّ ما لبثت أصواتهن أن انخفضت، بغتة، بهمس لم نستبنه، وقتها، تماماً، سوى أننا التقطنا من بين ارتجافاته الخافتة، لأوَّل مرَّة، عبارة «تَرَبْ البنَيَّة»! ............................... ............................... بكاها أهل الحيِّ أجمعهم، وبكتها بقراتها الناعبات، وبكاها مذياعها الغارق في وحشة صمته، وبكيناها، نحن الصِّغار، ربَّما بأكثر مِمَّا بكاها الكبار، ومشينا مع الرِّجال منهم خلف جنازتها إلى المدافن، نتزاحم تحت أرجلهم، كسرب جراء، ونحدِّق، بأعين واجفة، في مشهد تمديدها بجوف اللحد، ورصِّ قوالب الطين فوق فتحته، وإهالة التراب عليه بالواسوق، حتى صارت الحفرة تلة مستطيلة وضعوا حجرين كبيرين في موضعي الرأس والقدمين منها، ورشُّوا بعض الماء عليها، وقرأوا الفاتحة مرَّة، والإخلاص إحدى عشر مرَّة، ثم انقلبوا عائدين، ونحن من ورائهم، وبين سيقانهم، نتراكض كأفراخ قطا يلفحها اليُتم والبرد، وقد رسمت الدموع مجاريها اللزجة على غبشة وجوهنا الشِّتائيَّة، وسالت بها أنوفنا الطفلة المدرارة! ............................... ............................... انقضى مأتم الرجال بأيَّامه الثلاثة. أمَّا مأتم النساء فقد اتصل لفترة أطول. لكنَّ الحزن تلاشى في نفوسنا، نحن الصِّغار، بأسرع مِمَّا تلاشى في نفوس الكبار! هكذا صار مأتم النساء في بيت الجِّدَّة وردة مرتعاً للقاءاتنا المستمرة، ومشاغباتنا العابثة، وألعابنا الضَّاجَّة، ومرحنا الصَّخَّاب! نقصده، خلف أمهاتنا، في الصَّباحات، ونعود منه معهنَّ لدى اقتراب عودة الآباء بعد الظهيرات، ثم نعاود الرَّكض خلفهنَّ إليه مطالع العصاري، ولا نقفل راجعين إلا عند عودتهنَّ بعد صلاة العشاء. وكانت بعض النسوة غير المتزوِّجات يتبادلن المبيت مع بنات المرحومة، مؤازرة لهنَّ، أغلب الليالي. أمرٌ واحدٌ كان يفسد علينا متعة ذلك التغيير الكبير الذي حلَّ على حياتنا، فجأة، بموت المرحومة، فهشَّم روتين طفولتنا: الهمس الغامض الذي تتخلله عبارة «تَرَبْ البنَيَّة»، والذي ما تكاد تنفرد امرأتان في ركن إلا وتستغرقان فيه، غير آبهتين لوجودنا على مقربة نسترق السَّمع، وقد تزيدان شيئاً تلتقطه آذاننا أيضاً عن رائحة حنوط، وخنخنة صوت، وخشخشة كفن! كنا نلاحظ أن بنات المرحومة يراقبن ذلك، عن كثب، دون أن يفوتنا، ونحن في تلك السِّنِّ، التقاط حرجهنَّ المقترن بالقلق والتوتر الواضحين! وكان أكثر ما يؤرِّق ليلاتنا، أيامها، ويقضُّ مضاجعنا، محاولاتنا، بأقصى ما أوتينا من أخيلة غضَّة، افتضاض سرِّ ذلك الهمس الغامض، والحرج، والقلق، والتوتر! لكنَّ الإرهاق سرعان ما كان يحملنا على أمواج أثيريَّة من النعاس، فالنوم، ليتماهى الوعي مع اللاوعي، إلى أن جاءت الليلة الليلاء! ............................... ............................... عدنا، كما العادة، عقب صلاة العشاء، مرهقين مغبَّرين، بعد يوم حافل باللعب والمرح في بيت البُكاء. استحممنا، وتعشَّينا. لكن، ما كدنا نهجع للنوم حتى شقَّت السُّكون، بغتة، من جهة بيت الجِّدَّة وردة، صرخات نسائيَّة مذعورة، متداخلة، قفَّ لها شعر جلودنا! وسمعنا همهمات رجاليَّة تتعالى، ومعدَّات معدنيَّة تتلاطم، وأوان زجاجيَّة تتكسَّر، وأقداماً تتراكض بالخوف في الشَّارع، وأجساداً تتقافز من فوق الحوائط الفاصلة بين البيوت المتلاصقة! ثم ما لبث أن تناهى إلى أسماعنا صوت إبن المرحومة الكبير الذي كان قد جاء لحضور مأتمها من الخرطوم، حيث كان يعمل سائقاً في شركة النور، يصيح بلسان مخمور: «يللللا من هنا .. يحرق د..كم .. حريم مطاليش! تاني علي الطلاق اشوف واحدة فيكم في البيت ده إلا أكسِر ليها كراعها»! ............................... ............................... لم ندرك، بطبيعة الحال، حقيقة ما جرى، تماماً، في تلك الليلة؛ غير أن آذاننا التقطت، خلال الأيام التالية، ألف حكاية وحكاية. ومع أن تلك الحكايات كانت ما تزال مشوبة بالغموض، ومحتشدة بالأسرار، إلا أنها ألهبت خيالنا بما يسدُّ بعض الفراغات، ويستكمل شيئاً من النقص؛ فكنا نقضي سحائب نهاراتنا تحت الهجليجة، نفكِّك الوقائع، ونعيد تركيبها، بقدر ما تسعفنا مواهبنا الطريَّة، وأخيلتنا الخصيبة! ومع تيقننا من أننا نكذب ونختلق، إلا أننا كنا نجد لذَّة عجيبة في الاستغراق في تلفيقاتنا تلك، حدَّ أن يتملكنا رعب حقيقي يجعلنا نتلفت وجلاً، ونرتعد فرَقاً، حتى يترقرق الدَّمع في مآقينا! ............................... ............................... وضعت تلك الحادثة، على أيَّة حال، نهاية معنويَّة لمأتم الجدة وردة المتطاول، مثلما وضعت بداية ماديَّة لترقب عودتها .. في أيَّة لحظة! هكذا انحسرت الأرجل عن بيت البُكاء، وأغلق أهله بابهم عليهم، لا يزورون أحداً، ولا يزورهم أحد! حتى أطفالهم ما عادوا يلعبون معنا! ومن يومها لم يعد الحيُّ، أبداً، سيرته الأولى! (3) بعد نحو من شهرين، وكنا نسينا الأمر برمَّته أو كدنا، حملت، ذات «يوم سوق»، سلة صغيرة من السعف الملوَّن المضفور كانت جلبتها لي جدتي لأمِّي التي كانت جاءت من ام درمان تزورنا، وركضتُّ أشقُّ زحام الباعة والمتسوِّقين، يتبعني عتود صغير كنت أربِّيه، قاصداً ركن بيع النَّبَق الذَّهبيِّ الطازج، اليانع، المائل إلى الحُمرة. كانت عيناي مشغولتين بالبحث عن أجود الأكوام. وما أن وجدته حتَّى بَرَكتُ على ركبتيَّ أمامه، ومدَدتُ يدي إلى البائعة بالسَّلة، وبقطعة العملة المعدنيَّة من فئة الفِريني «قرشين»، بينما عيناي مغروستان في بريق الذَّهب: «أديني يا حَبُّوبَة»! «أنطيك بي كم»؟! ............................... ............................... انتبهت، بغتة، إلى خنخنة الصَّوت، وفي ذات اللحظة إلى .. رائحة الحنوط! وكما في شريط سينمائيٍّ يُعرض بالسرعة البطيئة، رحت أرفع رأسي، رويداً رويداً، بينما راحت كلُّ بوصة في جسدي تنَمِّل وتقشعر، حتى إذا ما استقرَّت عيناي على الأبنوسيَّة الخمسينيَّة المهيبة، مفرطة البدانة، مربوعة القامة، فاحمة اللون، هائلة العجيزة، فارهة الصَّدر، قصيرة الشَّعر، فطساء الأنف، عالية الجَّبين، محمرَّة العينين، غليظة الشَّفتين، غامضة الابتسام، مضطجعة على عنقريبها القصير، وكفنها يُخشخش ملتفَّاً، بالكاد، حول جسدها الصقيل الدهين، ومنحسراً عن شعرها الفلفليِّ الوديك، أطلقت صرخة مفزوعة ارتجَّت لها أركان السُّوق ، ولم أع ، بعد ذلك، من أمري شيئاً! (4) يبدو أنني لزمت سرير المستشفى، فاقداً الوعي، عدَّة أيام. أدركت ذلك من ثرثرات جاراتنا اللاتي تعرَّفت على أصواتهنَّ بيُسر، وقد تقرفصن حولي في العنبر، بينما كنت أستفيق، ببطء، تحت الغطاء، مثلما فهمت، من تلك الثرثرات، أيضاً، أنني، عندما وقعت عيناي عليها، صرخت باسمها حتى كدت أشقُّ حنجرتي وصدري، قبل أن أسقط مغشياً عليَّ، فتجمَّع الناس حولي، وعرفني حلاق في السُّوق من أصدقاء والدي، حملني، وركض بي إليه في المستشفى، حيث أسعفت ولزمت السرير. غير أن أكثر ما شدَّ انتباهي، وحيَّرني، هو ما قيل عن أن من كانوا في الموقع، بمن فيهم الحلاق نفسه، أقسَموا على أنه لم تكن ثمة أبنوسيَّة خمسينيَّة مفرطة البدانة ولا يحزنون، بل محض فتاة إعرابيَّة نحيلة بائسة اعتادت أن تأتي كلَّ «يوم سوق» لتبيع النبق واللالوب والتبلدي، وأنها، لمَّا وقع مني ما وقع، فزعت، فانتفضت كما الملدوغة، وفرَّت بجلدها، تاركة بضاعتها المتواضعة ونقودها القليلة! ............................... ............................... مع ذلك، أضاف الجِّيران تلك الحادثة تِرْسَاً صغيراً في عجلة حكاياتهم التي لم تكفَّ، يوماً، عن الدَّوران، حول .. عودة الجِّدَّة وردة!