لم يعلم الطفل يس بعد أن تجاوز الرابعة، أن للعالم وجهاً آخر غير الذي رسمته حقيقة حياة المتشردين، يتألم في بعض اللحظات ويبكي في البعض الآخر لفراق والديه عندما كانت أظافر النعومة التي لم تبد للواقع بعد بيضاء كلبن الأم ، كان يس الطفل الذي يعشقه الجميع عندما يربط الابتسامة بشيء من الإصرار ، حيث يتذكر تأتأة الطفولة ومعاناته وهو يتخطى العتبات ليكون يافعاً. سرد ل(الرأي العام) قصته بشيء من الحذر والكثير من الحزن فقال :كنت أعيش مع أمي وأبي قبل ثماني سنوات ،وكنا نعيش حياة رفاهية أنا وأسرتى في منزل كبير وجميل، وكنت سعيدا جدا معهما لأنهما كانا يحمياني من لهيب الشمس والمخاطر، ولكن جاء القدر وقتل أبي ، عندما كانت الحرب بين الجنوب والشمال، وبعدها بأيام قليلة توفيت والدتي وتركتني في الحياة لوحدي، وضاقت بي الدنيا لأنى لا أعرف غيرهما في هذه الحياة، وأخذنى أحد أقاربي لأمكث معه، ولكن لم يعجبني الوضع من معاملتهم القاسية لي وخرجت من ذلك المنزل وبدأت أتجول في الشوارع، ولا أعرف الى أين اتجه، لأنى لا أعرف شخصاً. فبدأت أحزن على نفسى كثيرا لأن الكل يرمقني بنظرات استحقار، والكل يشتمني لربما لايهمهم أمري، وعندما يجتمعون ليلعبوا لايشركوني في اللعب، لقد اغتيلت طفولتى لم أفرح يوم العيد لأني لا أجد من احتفل وأفرح معه، أرى كل الأطفال مع أسرهم يفرحون ويضحكون في يوم العيد، واشتاق ان أكون في مكان هؤلاء الأطفال ولا أجد من ابتسم معه لذلك أصبح الحزن رفيقي ويلازم حياتي، وأحيانا لا أجد الماء لأروي ظمئي ومن الجوع اشتكى وليست لدي ثياب كافية لكى أحمى بها جسمي من البرد وأشعة الشمس ولم ألبس حذاء في رجلي، أعاني من برد الليل وحر النهار ، وتعرضت الى كثير من المخاطر ولم يقف بجاني أحد، لقد أصبحت حياتي كلها تشرد، أعيش وحدي لا أخ ولا أخت ولا أم ولا أب كلهم غادروا وتركوني لوحدي في هذه الحياة، لا أعرف ماهو مجرى مصيري في هذه الحياة، فقط أطلب من لله أن يكشف الهم والحزن عني. قصة يس فتحت الباب مشرعا للتساؤل عن قضية التشرد وأثرها النفسى على المتشردين، خاصة وأن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية فى السودان والحروب الأهلية أدت الى بروزها كظاهرة لها إفرازاتها الاقتصادية والصحية والأمنية، وأنها من أهم المشكلات الاجتماعية الآخذة فى النمو والزيادة وليس فقط بين بلدان العالم الثالث وإنما أيضا في بعض الدول الصناعية الكبرى. مشكلة التشرد وضعناها على طاولة الأستاذ مصعب أحمد مصطفى الناشط في مجال علم النفس والاجتماع حيث أكد أن مشكلة التشرد هي نتاج لإفرازات من داخل المجتمع وهو يتعلق بالتربية والسلوك العام وفقدان الوعى الديني والأخلاقي ، مشيرا الى أن أسباب التشرد تتمثل في الانحلال الأخلاقي والتفكك الأسري وتشتت الأبناء بين الأبوين بسبب الطلاق، والتسرب من المدرسة الذي يعرض الأطفال إلى خطر الخروج إلى الشارع، إضافة إلى الفقر وعدم توفر فرص العمل والنقص في الأمن بسبب الحروب والنزاعات الداخلية ، والضغوط الأسرية تكون سببا أساسيا في التشرد.. ويمضي مصعب بقوله إن المتشردين ينقسمون إلى عدة أصناف منهم الأطفال الذين يقضون كل نهارهم في الشارع أو ممارسة أعمال هامشية وهذه الفئة تقسم الأطفال الذين يقضون فترة تطول بالشارع ثم يعودون لأسرهم من وقت لآخر .. وهناك الفئة الثانية من تصنيف الأطفال وهذة الفئة تقضي ليلها ونهارها في الشارع وقد انقطعت صلتها بأسرتها لفترات طويلة قد تمتد لأعوام عديدة وبعضها يمارس التسول والسرقة ويبيتون فى الطرقات ووتمثل هذه الفئة (فاقدي السند). أما الأخطار التي يتعرض لها المتشردون فقد أوجزها (مصعب) في العنف الجسدي والنفسي والاستغلال الجنسي والتعرض للأمراض ، ويمكن ان يكونوا مجرمين، وإجرامهم (مغتنم) لان ارتباطهم بالسوق أكبر وقد يكونون نواة لعصابات في المستقبل. وعن كيفية معالجة مشكلة المتشردين يرى أن عدم التثقيف هو أساس هذه القصة لذلك يجب الرجوع الى الدين والتوعية وحل المشاكل الاجتماعية بعيدا عن إطار المحاكم فبالتالي لن يكون هناك تشرد .. يقول مصعب دور الدولة للمتشردين حل المشاكل الاجتماعية ورفع المستوى الاقتصادي كما يكون دور التنمية البشرية التكافل مع الاختصاصيين النفسيين وكتابة التقارير عن المتشردين ومحاولة معالجتها بطرق سليمة .. وقال ختاما يمكن القول بانه في ظل الزحف المستمر لظاهرة التشرد وعدم التعاطي معها بشكل صارم وحازم سيبقى المتشردون تائهين حول بوابة نحو المجهول.