لم تكن دعوة الفريق سلفا كير لمواطني الجنوب للتصويت لصالح «استقلال الجنوب» نكوصاً عن موقفه، ولكنه كان انقلاباً على التزاماته التي رتبتها إتفاقية نيفاشا «العمل من أجل الوحدة الجاذبة نصاً وروحاً». وكان كثير من المراقبين في الداخل والخارج موقنين أن رئيس حكومة الجنوب النائب الأول سيظل يراوغ ولا يفصح عن موقفه الحقيقي من الإنفصال إلا أمام صندوق الإستفتاء. وكان الفريق سلفا يتهرب من الرد المباشر عن موقفه من الإنفصال بالقول إنني لست الجهة أو الصوت الذي سيرجح كفة على كفة، وأن الشعب في الجنوب هو الذي سيقرر المصير. وفشل الصحافيون وكثير من السياسيين خلال السنوات الاربع الماضية من إنتزاع كلمة ولو تلميحاً تكشف موقفه «الإنفصالي المبطن». فهذا الموقف كان معروفاً عن الفريق سلفا قبل تسنمه مناصبه الأولى سياسياً، ودستورياً وتنفيذياً.. فقد ظل لفترة طويلة الحضن الدافىء داخل الحركة للمجاهرين سراً بضرورة تجبير نتائج الحرب في الجنوب لصالح «الاستقلال». وتجاوز هذا الاحتضان صفوف الحركة الى عدد من عتاة الإنفصال من السياسيين الجنوبيين. ولكن لماذا خرج الآن رجل الاستخبارات العسكرية الذي حافظ على عنقه سليماً من مقصلة جون قرنق التي طالت بلا رحمة دعاة الإنفصال عن صمته، أو بمعنى أدق توقف عن التهرب من تبيان موقفه «الإنفصالي»؟ لقد كان اختيار الزمن ضرورياً، إذ لم يتبق على توجه المواطن الجنوبي لصندوق الاستفتاء إلا «14» شهراً ولا يلوح في الأفق ما ينبيء أن خيار الإنفصال أضحى شعبياً جارفاً لا خلاف عليه، بل العكس تماماً، فقد بدأت في أوساط عديدة في الجنوب نقاشات موضوعية عن جدوى الإنفصال، وما إذا كانت الحركة «بطل الاستقلال» يمكنها إدارة دولة مستقرة موحدة يتساوى فيها الجميع «مواطنون من الدرجة الأولى» أم ان السيد سلفا سيعيد إنتاج أزمة سنوات نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات وهي الأزمة التي عرفت بهيمنة الدينكا وعجلت بتقسيم الإقليم الجنوبي الى ثلاثة. أياً كانت الإجابات فقد قرر الفريق سلفا قطع الطريق على مثل هذه الأفكار والشكوك التي تضعف من تيار الإنفصال وبعث برسالته شديدة الوضوح من كبسة كتور في جوبا الاسبوع الماضي. ومن الخطأ الإعتقاد أن رسالة النائب الأؤل موجهة للمواطن الجنوبي البسيط سواء أكان مقيماً في الإقليم أو في الشمال فالرسالة موجهة الى الكوادر العسكرية في الحركة الشعبية أولاً ليكون واضحاً أن قائدهم الذي قاسمهم المبيت في الخنادق وسار معهم الأميال على قدميه مع قيام دولة جديدة بعيداً عن الشمال الذي حاربه هؤلاء الجنود. إن الهدف من الرسالة إعادة التوازن النفسي للمقاتلين واستعادة وتثبيت ما تبقى من شعبيته في أوساطهم خاصة وأنه لم يكسب أرضاً شعبية جديدة. يضاف الى ذلك عوامل اخرى ومنها الأحداث أو المواقف الإقليمية والدولية والمحلية التي عجلت بتخلي سلفا عن حذره لتلك الإشارات القوية الصادرة من مصر وكينيا بضرورة التروي وعدم الإندفاع غير المحسوب نحو الإنفصال. مصر وفقاً لمعلومات دبلوماسية وضعت أمام عيني رئيس حكومة الجنوب معلومات مفصلة عن نشاطات في الجوار تستهدف الإنقضاض على أطراف من الإقليم اعتماداً على حالة عدم الإستقرار السائدة وضعف سيطرة المركز «جوبا» على الأطراف.. كما أبدت القاهرة كامل الاستعداد لتكملة نواقص الوحدة الجاذبة تنموياً.. ولقطع الطريق على حجج قادة الحركة بضيق الوقت قررت القاهرة كحل إسعافي فتح أبواب مدارسها وجامعاتها ومستشفياتها أمام أبناء الجنوب. خطوة مصر تتكامل مع الموقف الداخلي والتوضيحات الصادرة من نائب رئىس الجمهورية الاستاذ علي عثمان محمد طه حول مفهوم الوحدة الجاذبة «قسمة السلطة والثروة كما وردت في نيفاشا» وهي توضيحات تغلق الباب أمام شكوك مثقفين جنوبيين من أنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو كما قال سلفا وهو يحذر الجنوبيين من التصويت للوحدة، وفي كينيا التي زارها النائب الأول بعد القاهرة مباشرة سمع تحذيرات قوية مماثلة كما سمعها في مصر مع تبنيه ضرورة الالتزام بروح إتفاقات نيفاشا التي تعلي من قيمة الوحدة. كما أبلغ الكينيون القائد الجنوبي الأول أن الدولة الجديدة المرتقبة ستكون في أمس الحاجة لمساندة ودعم جيران متربصين ببعضهم البعض وهم لأسباب تخص كل دولة على حدة داخلياً ليس وارداً عندهم المساندة أو الانشغال والتشاكس والصدام من أجل دولة تولد على حدودهم. «فلكل صراعاته من أجل مصالحه الطبقية أو القبلية» والإثنية. أما الموقف الدولي الذي يعبر عنه الجنرال قريشن فهو أيضاً مزعج للقيادات الجنوبية التي ظنت أنها سكنت قلوب صانعي السياسة في أمريكا. وهو ظن خاطىء، فالولايات المتحدة تثق في أصدقائها الشماليين «نظاميين ومدنيين تدربوا في معاهدها وعاشوا وخبروا الحياة الأمريكية وفوق هذا وذاك مواقفهم لا تتبدل كثيراً.». وعلى عكس ما يعتقد قادة في المؤتمر الوطني فالإدارة الأمريكية الحالية على الأقل متحمسة لبروز دولة جديدة، العوامل السابقة حتمت على الفريق سلفا التعامل بالمثل العربي القائل «ما حك جلدك مثل ظفرك». فقرر أن يلقي بكل ثقله العسكري والسياسي وراء خيار الإنفصال، فلم يعد هناك ما يخسره. ولعل هذه الحالة مضافاً إليها الموقف الحقيقي للفريق سلفا لم تشكل مفاجأة إلا للشماليين الذين راهنوا على شعار السودان الجديد «المبهم إلا من تفسيرات الإمام الصادق». وأدرك رئىس الحركة الشعبية مدى الارتباك والإحباط الذي انتشر في أوساط هؤلاء الشماليين المنضوين تحت لواء الحركة أملاً في سودان موحد على أسس جديدة، فسارع هو شخصياً وقبله رئاسة الحكومة في جوبا وليس الأمين العام للحركة كما تقتضي الظروف الى إصدار تفسير ملتبس أحال فيه المرتبكين والمحبطين الى أقوال منسوبة للدكتور جون قرنق المنزوعة من سياقها لا أقوال سلفا. وكان لابد من تحميل أجهزة الإعلام الدولية والمحلية مسؤولية النقل والتفسير الخاطئين.. وهي محاولة ساذجة لا تنطلي على من قرأوا الجمل الواردة في الحديث بعناية. فكلمات من عينة إستقلال، مواطنين من الدرجة الثانية، الإضطهاد الشمالي من أدبيات الإنفصاليين في الجنوب.