وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم على مراعاة حقوق الجار ومنها (أن لا تؤذه بقتار قدرك رائحة طعامك إلا أن تغرف له منها) .. دائما ما تذكرني تلك الوصية بقصة سيدة عجوز .. كانت تلك الحبوبة العجوز خفيفة الظل لطيفة المعشر، وقد شاءت الظروف بأن يتجاور بيتها الطيني البسيط مع قلعة من قلاع (ناس طلع جديد) .. فكانت كلما اقتحمت خياشيمها روائح الشيّات التي تهب من مطبخ أصحاب القلعة واستفزت عصاراتها الهاضمة وهيجت عليها لواعج الجوع .. اصابتها حالة مستعصية من الشحتافة وحراق الروح وهفت نِفيسّتا ل العضة التي تطول غيبتها عنها، ولا تزور مطبخ أهل بيتها المساكين إلا من العام للعام في الضحية .. ف تبكي وتنوح وتصيّح وهي تدعو على أصحاب القلعة على طريقة إياك اعني فأسمعي يا جارة: عاد شكيتم علي الله يا ناس الحلة كان ما ضوقتوني معاكم الشيّة !! ثم تعقبها ب (انشاء الله ما تنفعكم) عندما تتيقن من أنها تأذن في مالطا لتسمع غير مسمع. طوال ايام العيد السعيد عبقت اجواء دروب الاحياء والحلال في القرى والحضر ب عطرابة روائح الشية، وتعالت دخاخين اللحوم والشحوم لتنبئ عن ما شوي منها على (الصاج) أو (الجمر) ... من المفروض أن تقسم لحوم الاضحية إلى ثلاثة .. ثلث لطعام أهل البيت في أيام العيد، وثلث للادخار لساعة قرمة وجوع بعد انقضاء العيد بأيام أو أسابيع حسب سعة حيلة ربة البيت في التدبير والتوفير، والثلث الاخير ليوزع على المحتاجين من الفقراء والمساكين من الجيران كرامة وسلامة، واحقاقا لحق الجار الذي أوصى به الحبيب المصطفى، ولكن من عادة ربات البيوت عندنا أن يقمن بتوزيع نصيب الفقراء والمساكين من لحوم الاضاحي في شكل سبعة أكوام على بيوت الجيران (الضابحين) هم ذاتهم، فتتبادل الجارات أكوام اللحم على طريقة (أديني وأديك) .. بل كثيرا ما يقوم (كوم اللحم) الذي يخرج من بيت أول الضابحين بجولة، يلف خلالها بيوت الحي جميعها .. فكلما استلمته واحدة من الجارات أعادت تغليفه بكيس نايلو جديد، ثم أرسلته للجارة التي تليها وهكذا حتى يستقر في جوف حلة ربة البيت التي تبرعت به أول الأمر .. وقد تتكاسل من يصلها كوم اللحم (اللافي) بين بيوت الحي، عن تغير تغليفه قبل أعادة تدويره فتقوم بارساله للجارة التي تليها ب (صمّته) دون مجهود أو تعب، لذلك تتجنب الجارات لف أكوام اللحم بأكياس مميزة حتى لا يحدث معهن ما حدث ل (تماضر)، فعندما نقصت منها أكياس النايلو دون أن تكمل السبعة أكوام المعلومة، عمدت إلى الكيس الذي احضرت فيه كسوة العيد من ذلك المول الشهير في الخرطوم، ثم افرغته ووضعت فيه كوم اللحم الأخير وأرسلته لجارتها من ذات اليمين .. ولدهشتها واحباطها الشديد فوجئت بكيسها ال (ما بيغباها) يعود إليها بنفس الكوم لم تنتقص منه مزعة لحم، عندما ناولته لها جارتها من ناحية الشمال عبر الحائط وهي تقول: النبي يا تماضر هاكم ضوقوا لحمة خروفنا !! تلك العادة تشابه تصرفات قاطني البروج العاجية والتي استنكرها عادل امام في مسرحيته (الود سيد الشغال)، عندما أطلق تساؤله الاستنكاري: حاجة غريبة .. ناس عندها لحمة تعزم ناس عندها لحمة عشان ياكلوا معاهم لحمة؟!! بل قد يتجاوز الأمر من تبادل المنافع اللحمية إلى تبادل الكعابات البينية، فتلوح في جو العلاقات بين الجارات بوادر الشناف ونعرات التنابذ بأشكال وأحجام الخرفان، والدعوات للتعامل بالمثل فنسمع من تقول: لقّطي يا بت العراقيب وعضم (اب قبيح) عشان نوديها لي ناس فلانة !! وما ذلك إلا لان فلانة تلك قد بادرت ب الشينة في ضحية (عمن اول) فأرسلت لصاحبتنا كوم لحم مكون من عضام (فِقِرة) الخروف .. يعني السدة بالسدة!