دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركة الشعبية والعودة لمنصة التأسيس
دعوة للحوار مع النفس.. (2 - 2)
نشر في الرأي العام يوم 22 - 12 - 2009

كما شددت في رسالتي المفتوحة لدكتور غازي صلاح الدين (الأحداث والرأي العام، يوليو 2009)، فإن الواجب الوطني يحتم على شريكي الحكم، بحكم قيادتهما لهذه المرحلة التاريخية الدقيقة، بل وعلى كل القوى السياسية السودانية، ابتدار الحوار حول معادلة الوحدة والانفصال بكل صراحة وأمانة وصدق وشفافية، والدعوة الجادة لجرد حساب موضوعي لما فعله، وما لم يفعله، كل طرف، من ناحية السياسات والبرامج، لجعل الوحدة «جاذبة» كأحد مستحقات الاتفاقية والدستور. فبدون أن يحدد كل طرف موقفه بوضوح من وحدة البلاد ومناقشة العقبات التي تعترض سبيلها بصراحة ووضع كل الضمانات المطلوبة، يصبح الشريكان، ولو على شاكلة «كل شيخ بطريقته»، كلاهما يدفعان بالجنوبيين للتصويت لصالح الانفصال، فليستعدا لتحمل تبعات سياساتهما على مستقبل البلاد والعباد! وللتعبير عن قراءتي لموقف كل من شريكي الحكم من وحدة البلاد، استشهدت بطرفة الزعيم الراحل د. جون قرنق في تقييمه لموقف أحد الرفاق من انقلاب الناصر، إذ قال بعربي جوبا «فلان ده عندو كراع معانا وكراع مع الانقلابيين، لكن كراع (كبيرة) بتاعو مع ناس الانقلاب!». فيبدو للمراقب المدقق أن لكل من الشريكين في موقفهما من مستقبل الوطن قدماً في موقع الوحدة، والأخرى في موضع الانفصال، ولكن الأخيرة أكبر وأضخم! ---- فى سياق تطبيق رؤية السودان الجديد على أرض الواقع لابد للحركة الشعبية، وهو أمر تأخر موعد استحقاقه، أن تجعل من جنوب السودان- حيث تسيطر بصورة شبه تامة- أنموذجا تنطلق منه لتحقيق مبادئ السودان الجديد على المستوى القومي، خصوصا: إعادة هيكلة السلطة وحكم القانون والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، والتنمية المتكافئة والمستدامة. قضايا الحوار وعلى الجانب التنظيمي والمؤسسي للحركة الشعبية، فقد تدفقت مياه كثيرة تحت الجسر منذ التوقيع على اتفاقية السلام الشامل، لعل أهمها يتمثل في اكتساب الحركة لأعداد هائلة من الأعضاء والمناصرين في مختلف ولايات شمال السودان، بما في ذلك دارفور، تعلقت عقولهم وقلوبهم بمشروع السودان الجديد، ويقف الاستقبال غير المسبوق للزعيم الراحل في 8 يوليو 5200 كخير شاهد لهذا التدافع نحو الحركة. ومن جهة أخرى، شرعت في تطوير هياكلها التنظيمية والمؤسسية في سياق تحولها من حركة عسكرية وإقليمية الطابع إلى تنظيم سياسي قومي في إطار الانتقال من الحرب للسلام. وجاء انعقاد المؤتمر القومي الثاني في مايو 2008م، بعد (14) عاماً من المؤتمر الأول، حيث فتحت الأبواب مشرعة لمشاركة أعضاء الحركة من بقية أقاليم السودان - قطاع الشمال- بما يقارب ثلث مجموع أعضاء المؤتمر البالغ عددهم حوالي (1500) مندوب. شكل المؤتمر فرصة طال انتظارها وظلت قواعد الحركة، خاصة الوحدويون من شماليين وجنوبيين، تهفو إليها للمشاركة في حوار جاد وشفاف حول القضايا المصيرية المرتبطة بتطور الحركة وانتقالها من حركة مسلحة إلى حزب سياسي، يتولى قيادة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق وحدة البلاد على أسس جديدة، في ظل ما يسود من شعور عام بالإحباط بسبب الغموض في موقف قيادات الحركة من وحدة السودان! في الحقيقة، أضحت قواعد الحركة المنظمة وجماهيرها ومناصريها (ممن تحروا فيها الخير) في حيرة من أمرهم، إذ بات هاجس الانفصال يؤرق منامهم وأصبحوا يتساءلون: هل نفضت الحركة يديها عن رؤية السودان الجديد؟ فهم انضموا للحركة من أجل سودان جديد موحد، فوجدوا أنفسهم وكأنهم يسبحون عكس التيار أو يؤذنون في مالطا. ولكن، خاب ظن المؤتمرين في أجندة المؤتمر ونتائجه. فمع نجاحه في حسم مسألة قيادة الحركة بصورة ودية وديمقراطية، والحفاظ على وحدة الحركة وتماسك قيادتها، وإجازة الدستور والمانفيستو، وبالرغم من المصادقة على رؤية السودان الجديد، إلا أن هذه الرؤية لم يتم تفصيلها في أية إستراتيجيات أو سياسات أو برامج يسترشد بها العمل السياسي اليومي، ويقوم عليها المانيفستو أو البرنامج الانتخابي للحركة. فلم تعرض على المؤتمرين أية أوراق أو وثائق لمناقشتها والحوار حولها، فيما عدا مسودتي الدستور والمانيفستو، كما أن هذه البرامج والسياسات المنتظرة لم تطرح للتداول حتى لحظة كتابة هذه الورقة. إن الوحدويين من الجنوبيين والشماليين (اثنياً وجغرافياً)، تدور في رأسهم العديد من الأسئلة تبحث عن إجابات، وتعوزهم الحيلة في التصدي لأسئلة الأصدقاء والأعداء، على حد سواء، والتي لا ينقطع سيلها حول مواضيع الوحدة والانفصال وتقرير المصير والاستفتاء. إن الحوار الجاد والصريح، بإشراك قواعد الحركة من كافة القوميات والأقاليم والرؤى السياسية، هو المدخل الوحيد لتناول ومعالجة هذه القضايا وللإجابة على ما يصاحبها من أسئلة: - الوحدة وحق تقرير المصير: يظل التوفيق بين هذين الهدفين يمثل التحدي الأعظم الذي يواجه الحركة بحكم رؤيتها وطبيعة عضويتها. إن نجاح الحركة في إتباع سياسة أعطت وحدة السودان الأولوية منذ نشأتها وحتى توقيع اتفاقية السلام الشامل في 2005، بنفس القدر يجعلها مطالبة الآن بإتباع إستراتيجية واضحة توفق بين الهدفين وتعبر عن تطلعات قواعدها المنتشرة في كل مناطق السودان، وليس في الجنوب فحسب. فإن كانت المطالبة بحق تقرير المصير والانفصال، قبل وخلال المؤتمر الأول في 1994، تمت على الصعيد «النظري»، إلا أن الممارسة «الفعلية» لهذا الحق، وبغرض الانفصال، قد باتت الآن على الناصية - كما يقول الفرنجة - فمع التوافق في المؤتمر الأول على إستراتيجية واضحة نحو بناء السودان الجديد، وبالرغم من قلة عدد الشماليين في ذلك الوقت، إلا أن مجرد تخوفهم من إقحام حق تقرير المصير في أجندة الحركة بغرض الانفصال انخرط الزعيم الراحل، بمشاركة بعض قيادات الحركة، في نقاشات وحوارات مطولة مع بعضهم حتى في أعقاب المؤتمر وعلى مدى شهرين (نوفمبر وديسمبر 1994) بقصد التوصل لمقترحات محددة تدعم التوجه الوحدوي للحركة. فما بالك الآن، وكل المؤشرات تدل على أن «الفراق واقع كان ترضى كان تزعل» (كما يصدح سيف الجامعة)؟ إضافة إلى أن الشماليين، من كل الولايات التابعة تنظيميا لقطاع الشمال، يشكلون ثلث عضوية المؤتمر القومي ومجلس التحرير القومي للحركة. وفوق ذلك، فإن العواقب الوخيمة للانفصال هذه المرة ستطال أيضا قواعد الحركة وجماهيرها في جبال النوبة والأنقسنا التي شكل أبناؤها وبناتها وقودا للكفاح المسلح من أجل السودان الجديد! وبالتالي، فالسؤال هو: هل حق تقرير المصير مرادف ومطابق للانفصال؟ أم هو آلية لتحقيق الوحدة أو الانفصال؟ إذا كان تقرير المصير مرادفا أو مطابقا للانفصال، لبدت الحركة الشعبية وكأنها تسعى لتحقيق هدفين متناقضين في نفس الوقت: الانفصال ووحدة السودان! أما إن كان بمثابة آلية، فكيفية توظيفه لخدمة أي من الهدفين تصبح بيد القوى السياسية الداعية له. فهل قامت الحركة بدراسة جدوى لخياري الوحدة والانفصال على مستقبل الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في الجنوب وحياة المواطن الجنوبي؟ أو أدارت نقاشا صريحا حول فحوى ومضمون مرافعة الانفصاليين؟ فمثلا، منحت الاتفاقية جنوب السودان، سلطات وصلاحيات دستورية ومؤسسية غير مسبوقة في المجالات السياسية والاقتصادية، كما كفلت مشاركة السودانيين الجنوبيين، وفقاً لنسبتهم المئوية من مجمل سكان السودان، في نظام الحكم الفيدرالي. وربما الأكثر أهمية، فقد أقرت اتفاقية السلام الشامل دستورياً حقوق المواطنة لكل السودانيين، بغض النظر عن العرق والانتماء الاثني، والدين أو النوع، كأساس للأهلية في تقلد المناصب العليا في الخدمة العامة، بما في ذلك رئاسة الجمهورية. وبالرغم من أن كل ما أقره الدستور الانتقالي لم يتحقق فعليا في ظل واقع تسوده العديد من الموانع الثقافية والعراقيل السياسية والمؤسسية والعوائق الاجتماعية، إلا أن النضال السياسي من أجل تفعيل وإنزال حقوق المواطنة الشاملة على أرض الواقع سيستمر ولن ينتهي أجله بانتهاء الفترة الانتقالية، بل سيستمر حتى بعد الانتخابات وإقرار الدستور الدائم. فيجب أن لا يتسرب اليأس إلى النفوس لمواصلة النضال والصراع السياسي من أجل استكمال بناء دولة المواطنة السودانية القائمة على التساوي في الحقوق والواجبات. فقد انتظر الأمريكيون من ذوى الأصول الأفريقية، دورهم في الرئاسة لأكثر من قرنين حتى أثمر أخيرا في الرئيس الرابع والأربعين، دون أن يدفعهم الصراع المرير والنضال المستميت، من أجل حقوقهم المدنية في العدالة والمساواة، للخروج من عباءة الاتحاد الأمريكي. حقاً، فقد كان الزعيم الراحل يعول على ديناميكية الحركة الشعبية ومقدرتها على التفاعل، بما في ذلك التحالف مع القوى السياسية الأخرى في الشمال، لإحداث التغيير المطلوب والوصول للمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات. هذا بدوره يقود إلى موقف الحركة من الاستفتاء! - الموقف من الاستفتاء: الإجابة «النمطية» بأن الوحدة تمثل الخيار الأول للحركة الشعبية، بينما شعب الجنوب هو الذي يقرر ذلك في الاستفتاء المرتقب، على أي سؤال يوجه لقيادات الحركة في هذا الخصوص، ليست مقنعة وتظل ناقصة لا تشفى غليلا. ففي كل الحالات التي تمت فيها ممارسة حق تقرير المصير (كويبك بكندا، واريتريا، وشرق التيمور، وشرق أوروبا)، كانت كل الحركات أو الأحزاب السياسية التي طالبت بهذا الحق تنطلق من منظور انفصالي يدعو إلى إقامة دول مستقلة للشعوب التي تنتمي إليها هذه القوى. بمعنى آخر، استخدمت هذه القوى الاستفتاء على حق تقرير المصير كآلية أو أداة لتحقيق هدف الانفصال، بل والترويج له من خلال حملات دعائية منظمة كما يحدث في أي انتخابات تنافسية، يروج فيها كل طرف لأطروحاته. وهذا سلوك لا يتناقض مع حقيقة أن الشعوب أو المواطنين هم من يقررون نتيجة الاستفتاء أو الانتخابات في نهاية الأمر! أما الحركة الشعبية فهي حركة قومية الطابع والتوجه وتضم عضويتها مختلف القوميات والشعوب السودانية. كما، للمفارقة، فإذا كان الجنوبيون فقط هم من يحق لهم المشاركة في الاستفتاء، فهل تحرم باقي عضوية الحركة حتى من التبشير بالوحدة وسط رفاقهم، ناهيك عن بقية الجنوبيين من غير الأعضاء بها؟ و هل تقف الحركة، كتنظيم سياسي يضم كل القوميات، على الحياد بدون إبداء رأيها، على الأقل بتعريفهم بايجابيات وسلبيات خياري الوحدة والانفصال؟ أليس الوقوف على الحياد يمثل في حد ذاته موقفا صريحا، ولو مضمرا، لحركة ظلت تكافح وتنافح من أجل مشروع يدعو للوحدة الطوعية لأكثر من عقدين من الزمان؟ ثم، كيف سيكون موقف الحركة من الوحدة في برنامجها الانتخابي؟ ومن ناحية أخرى، فقد حمل الجنوبيون السلاح وقاتلوا وقدموا تضحيات جساما لأكثر من عشرين عاما تحت راية السودان الجديد، فهل قرر شعب الجنوب من تلقاء نفسه أن يدفع هذا الثمن الغالي ويقدم كل هذه التضحيات من أجل هذا المشروع؟ أم أن قيادات الحركة هي التي قادته في هذا الطريق، بل ولا تخفى هذه القيادات بأن أول رصاصة أطلقت كانت موجهة ضد الانفصاليين في داخل الحركة؟ فالقيادة السياسية هي التي تشكل عقول الأفراد العاديين وتؤثر على وجهات نظرهم وسلوكهم، وعلى عاتقها تقع مسؤولية التوعية بالخيارات التي يرونها في صالح ومنفعة المواطن. ويظل الانفصاليون أنفسهم مطالبين أمام شعبهم بتوضيح رؤيتهم عن دولة الجنوب المستقلة وكيف أن الانفصال سيخدم مصالحهم ويرضى توقعاتهم! ولعلهم يمعنون في التأمل واستخلاص الدروس مما قاله الزعيم الراحل د.جون قرنق بأن السودان ملك لكل السودانيين، وبالتالي فإنها مسؤولية كل الجنوبيين أن يقوموا بدورهم بدفع كل ما هو لازم ومستحق من أجل إحداث التغيير في كل السودان، فعلى حد تعبيره «لن نسمح أبدا أن نحط من قدر أنفسنا لنصبح مجرد كائنات إقليمية متحجرة»!! - الوحدة الجاذبة: عبارة استحدثها الوسطاء بغرض ترجيح تصويت الجنوبيين لصالح وحدة البلاد بعد أن أعيتهم الحيلة في الوصول إلى اتفاق على نظام تشريعي وقانوني موحد لكل السودان. ويستند الاقتراح إلى فرضية أن هذه الترتيبات «المؤقتة» والمرحلية، ستوفر مساحة لتطوير وتعزيز رابطة سودانية جامعة، عن طريق التفاعل والحوار بين كافة القوى السياسية والاجتماعية، خلال فترة انتقالية، قد تقود إلى (سودان متحّول ديمقراطياً). ومع أن العبء الأكبر لتجاوز النظام القانوني المزدوج (نموذج الدولة الواحدة بنظامين) يقع على عاتق القوى
السياسية الشمالية، وعلى رأسها المؤتمر الوطني، إلا أن اتفاقية السلام الشامل تلزم وتملي أيضا على الحركة الشعبية (وكذلك المؤتمر الوطني) العمل الجاد لجعل الوحدة جاذبة، وذلك لكي يصوت السودانيون الجنوبيون لصالح الوحدة طوعاً. وبالتالي، بينما للجنوبيين، خارج الحركة الشعبية، مطلق الحرية في الترويج والتعبئة من أجل الانفصال، فالحركة ملزمة، وكذا كوادرها، بالمثابرة في التعبئة والعمل لتحقيق شروط الوحدة الجاذبة. إذاً، هذا واجب لا يجوز سياسياً وأخلاقياً للحركة الشعبية، أن تنفض يدها عنه، وإلا تكون قد وقعت في خطأ جسيم تخرق بموجبه اتفاقية السلام، وأصابتها في مقتل. كما أن الحركة الشعبية كحركة ثورية من أجل التغيير، وبحكم رؤيتها وطبيعة عضويتها وأشايعها، ملزمة بالترويج لوحدة السودان على أسس جديدة. وحقيقة، فان مطالبة الحركة الشعبية بحضور فاعل في مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية في كافة أنحاء شمال السودان، ومشاركتها في كل مستويات الحكم في هذه الولايات خلال الفترة التي تسبق الانتخابات، كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى تمكين الحركة من التبشير بوحدة السودان. حقا، فعلى حد تعبير الراحل د. جون قرنق فان «اتفاقية السلام الشامل تمّكن الحركة الشعبية من تأكيد شخصيتها القومية وتوسيع نشاطها وعضويتها في كل أنحاء السودان. فالحركة سوف تدعم وجودها في جنوب السودان، حيث تستحوذ على (70%) من السلطة ، ولديها (45%) من السلطة في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ، كما ستشارك في السلطة بنسبة (10%) في كل الولايات الشمالية الأخرى. ومع تدعيم وجود الحركة في جنوب السودان وتوسيع عضويتها وتدعيم نشاطها في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق والولايات الشمالية الأخرى، فإن كل ذلك يدلل على طاقات كامنة للحركة تؤهلها لأن تصبح حزب الأغلبية في الانتخابات القومية القادمة وعلى كافة المستويات المحلية والولائية والقومية». وفي هذا الخصوص، ما هي، إذاً، الملامح الأساسية لبرنامج الحركة الانتخابي؟ وما هي طبيعة التحالفات السياسية التي تتصورها حتى تفي بمستحقات اتفاقية السلام في جعل الوحدة جاذبة؟ بمعنى آخر، ما هو هدف الحركة الشعبية من خوض الانتخابات؟ هل هو مجرد الإيفاء بمتطلبات اتفاقية السلام انتظاراً لموعد الاستفتاء وتحقيق الانفصال، أم المشاركة الحقيقية في عملية التحول الديمقراطي نحو بناء دولة المواطنة السودانية كما يتوقع أنصار الحركة وتتطلع إليه جماهيرها؟ ومن جانب آخر، هل قامت الحركة بالمبادرة بحوار عميق أو عصف فكرى حول ما تعنيه الوحدة الجاذبة أو محاولة تحديد مسؤولياتها وما يمكنها فعله في هذا الشأن؟ كما هل عملت على رسم أىة سياسات أو وضعت خططا فى هذا الخصوص؟ لاشك، إن أداء الحركة في هذا المجال يعرضها للتشكيك بأن وقوفها المعلن، ودعمها لوحدة البلاد فاتر وتعوزه الحماسة، بينما تعمل في الخفاء لتمكين الانفصاليين! وهكذا، يبدو لعضوية وجماهير الحركة الشعبية، خاصة في شمال السودان، وكأن الحركة قد استبدلت رؤية السودان الجديد باتفاقية السلام الشامل وتنفيذ بنودها فحسب، وبالتالي اختارت التقوقع والتقهقر نحو الجنوب في انتظار انفصاله الحتمي، بدلا عن استخدام الاتفاقية كمنصة انطلاق، وهذا هو في الواقع كل ما تعنيه الاتفاقية من أمر، لتحقيق هدفها الكبير: السودان الجديد (الموحد)! فإذا لم تكن الوحدة جاذبة، في رأى البعض، فما هو الجاذب في الانفصال؟ - الدين والدولة: أثار توقيع بروتوكول ماشاكوس وما أعقبه من مفاوضات في نيفاشا، شكوكاً واسعةً. فقد اعتبر الاعتراف بفكرة (دولة واحدة بنظامين)، بمثابة تمهيد لتقسيم البلاد. ورأى البعض أن الحركة الشعبية قد تنكرت لموقفها حول العلاقة بين الدين والدولة، وذلك بموافقتها على بقاء واستمرار الشريعة في الشمال. وفى معرض ردى على هذه الاتهامات في مقدمة كتاب (جون قرنق: رؤيته للسودان الجديد وبناء دولة المواطنة السودانية)، الصادر في 2005، ذكرت أنها تعكس قراءة خاطئة لنتائج المفاوضات، وعجزاً عن فهم منطقها وأحكامها. فاتفاقية السلام الشامل لا تمثل برنامج الحركة من جهة، كما أنها لا تمثل المشروع الذي يتطلع المؤتمر الوطني إلى تحقيقه، من جهة أخرى. وفي حالة التسويات السياسية التي يتم التوصل إليها عن طريق التفاوض، لا يمكن الحديث عن غالب ومغلوب، وذلك لأنه ليس هناك طرف في موقف يؤهله لفرض شروطه بالكامل. وفي السياق الخاص للنزاع السوداني، فإن الحركة الشعبية (والتجمع الوطني) لم تهزم الحكومة، وبالتالي لم تحقق الشرط الضروري لتمكينها من إلغاء القوانين السائدة التي تناقض منطلقات الحقوق الدستورية المتساوية في دولة المواطنة. ولكن، ومنذ ذلك الحين، فإن الصمت المطبق للحركة وإعراضها تماما عن الخوض في هذا الموضوع لم يساعد في تبديد هذه الاتهامات. بل ربما تفاقمت هذه الشكوك بعد مداخلة دينق ألور، في ندوة بعثة «اليونميس» ومؤسسة اتجاهات المستقبل، التي تساءل خلالها «لماذا يستغرب الناس عندما يقول أحد الجنوبيين بأنه مواطن من الدرجة الثانية في ظل وجود حكومة إسلامية، وأن الوقت المتبقي لتنفيذ الاتفاقية ليس كافياً لتحقيق الوحدة». فقد أعتبر كثيرون أن دينق لم يكن جادا في ما طرحه وأن حديثه ليس إلا مجرد حجة عابرة، إذ لم تثر قيادة الحركة موضوع العلاقة بين الدين والدولة خلال ما يقارب خمس السنوات الماضية التي أعقبت التوقيع على اتفاقية السلام الشامل. أيضا، التغاضي عن إثارة هذا الموضوع جعل الكثيرين يتشككون في أن يكون قطاع الشمال مجرد (فرع) لحركة (جنوبية) تقع على عاتقه لوحده مسؤولية فصل الدين عن السياسة في (دولة شمال السودان) طالما تحقق هذا الهدف في دستور (دولة جنوب السودان)، وكأن لسان حال قيادة الحركة من الجنوبيين يقول (نحن مالنا ومال الشمال!). ولعل «ملتقى كل الأحزاب السياسية» بجوبا وفر المنبر المناسب لطرح هذه القضية، إلا أن الحركة لم تأبه بالسعي للوصول إلى توافق بشأن مستقبل القوانين الإسلامية وكفالة حقوق المواطنة. هذا خاصة، كما وضحت في العديد من المقالات السابقة، بأنه سبق وأن حدث أكثر من اختراق في أمر المواطنة، من جهة، وعلاقة الدين والدولة، من جهة أخرى، بين الحركة الشعبية وهذه القوى السياسية المشاركة في الملتقى، والتي تستند إلى قواعد دينية، منذ اتفاقية سلام السودان (الميرغني-قرنق) في 1988، ثم مقررات نيروبي للتجمع في 1993، وأخيرا مقررات أسمرا للتجمع في 1995م.. وللمفارقة، مع أن الجبهة الإسلامية القومية (لاحقا المؤتمر الوطني) هي التنظيم السياسي الوحيد الذي لم يشارك، أو حتى يبارك، في هذا الحوار، إلا أنه أيضا أحدث اختراقا في المفاوضات مع الحركة الشعبية، بغض النظر عن طبيعة تأثيره السلبي على فرص الوحدة، لقبوله أولا بإعلان مبادئ الإيقاد، ثم لاحقاً بتوقيعه على بروتوكول ماشاكوس، التي تقوم عليه الترتيبات التشريعية الراهنة. فالحوار بين الحركة وباقي القوى السياسية، خاصة في شمال البلاد، يمثل الطريق الأول للتوصل إلى التوافق والتواضع على السمو فوق ما يفرقنا. الانتخابات هي الطريق الثاني الذي وفرته الاتفاقية لتجاوز عقبة النظامين التشريعيين في دولة واحدة. والحركة الشعبية أيضا تدرى أن إعادة صياغة القوانين، بل وإلغائها، عملية طويلة ومعقدة وليست بحدث عابر. وما تحقق في اتفاقية السلام الشامل، يمكن إخضاعه للتعديل والتطوير من خلال الانتخابات العامة، إذ تم الاتفاق على تأجيل النظر في مسألة العاصمة القومية (الخرطوم)، والبت فيها بواسطة البرلمان القومي المنتخب، وبالتالي ستجد القوى السياسية الراغبة في طرح أجندة القوانين المدنية فرصة أخرى لقيادة المعركة من داخل البرلمان. ولم لا، فالاتفاقية تبيح تغيير القوانين إن توافرت الأغلبية لقوى التغيير في الانتخابات القادمة. فالمادة (2.4.5) من اتفاقية السلام الشامل حول العاصمة القومية، حيث الشريعة الإسلامية وتطبيقها في العاصمة القومية تقرأ «دون المساس بصلاحية أي مؤسسة قومية في إصدار القوانين»، وحيث إن المؤسسة القومية الوحيدة المخول لها إصدار القوانين هي البرلمان القومي، فهذا يعني ضمنياً أن ذلك البرلمان يمكنه إصدار أي قانون، بما في ذلك القوانين المدنية. كل هذا يطرح سؤالا مشروعا: هل سيكون الموقف من علاقة الدين والدولة أحد المعايير التي ستسترشد بها في صياغة برنامجها الانتخابي، ورسم خريطة تحالفاتها الانتخابية وتحديد حلفائها؟ أم أن مطالبة الحركة الشعبية بإلغاء هذه القوانين كأحد الشروط اللازمة والضرورية لوقف الحرب، لم يكن إلا ذريعة لانتزاع حق تقرير المصير كخطوة أولى قبل أن تستخدمه مرة أخرى كحجة للانفصال عندما يحين وقت البت في هذا الحق باستفتاء الجنوبيين عليه؟ هذا هو بالضبط ما رسخه حديث دينق ألور في الأذهان! - المناطق المهمشة: لا شك أن الانفصال المتوقع للجنوب سيخلق أوضاعا قابلة للانفجار في منطقتي جنوب كردفان (جبال النوبة) وجنوب النيل الأزرق (الأنقسنا)، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار التفسيرات المتضاربة للشريكين لمعنى ومضمون «المشورة الشعبية» الوارد في البروتوكول الخاص بالمنطقتين في اتفاقية السلام الشامل. وتكتسب المنطقتان أهمية خاصة بالنسبة للحركة الشعبية: فهما لا يجاوران الجنوب فحسب، بل بادر بناتهما وأبناؤهما بالانضمام للحركة الشعبية والجيش الشعبي منذ البدايات الأولى وقدموا تضحيات جسام طوال فترة الحرب، كما شكلتا اثنتين من المناطق الخمس «المحررة» التي كانت تقع في نطاق «إدارة السودان الجديد» في مرحلة ما قبل الاتفاقية (الاستوائية، بحر الغزال، وأعالي النيل). وفوق ذلك، فإن الانفصال يضعف فرصة الوصول لسودان جديد يبقى فيه الجميع متساوين في الحقوق والواجبات، أو حتى الحفاظ على النسخة القديمة أو الحالية منه، مما يجعل قواعد الحركة في المنطقتين في حالة توتر وخيبة ظن. - الحركة الشعبية، إلى أين؟ إن كان العصف الفكري قد طال آفاق المستقبل لجنوب السودان في مرحلة ما بعد 2011 وتنظيم العديد من الندوات والمنتديات لهذا الغرض في أكثر من منبر داخل وخارج البلاد، فمن المجدي أيضا الشروع في حوار عميق ونقاش صريح حول حاضر الحركة الشعبية وسيناريوهات المستقبل. خاتمة قصدت بهذه المساهمة التعبير عن رأيي بأن قضية مصيرية في حجم ووزن معادلة الوحدة والانفصال في السودان تستدعى بالضرورة حواراً عميقاً داخل كل من القوى السياسية السودانية ووسط قواعدها. هذا موضوع يؤرقنا ويقلق مضاجعنا على نحو يومي، فلا مفر من إشراك، واشتراك الجميع في الحوار حوله. ركزت المداخلة على الحاجة الماسة للحوار داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان - على وجه الخصوص، لأسباب موضوعية وذاتية، على رأسها أن الحركة الشعبية هي التي طالبت بحق تقرير المصير في مرحلة معينة من تاريخ تطورها. وفى المقابل، لا بد أن يعم مثل هذا التفاعل المؤتمر الوطني كشريك أكبر في الحكم، حتى نتوصل إلى وفاق وطني ومصالحة تاريخية تحفظ مصالح الكل. وكذلك داخل القوى السياسية المعارضة، فهي أيضا معنية بطرح مشروعها للحفاظ على الوحدة القائمة على الديمقراطية والعدالة والمساواة، وهذا هو، فى حقيقة الأمر، كل ما تعنيه اتفاقية السلام الشامل! فلماذا لا نستخدمها، كما أريد لها، في توسيع القواسم المشتركة بين كافة القوى الوطنية الداعمة لمهمة بناء الدولة السودانية على أساس حقوق المواطنة ونبذ الاستعلاء بكافة مسمياته. فالاتفاقية ليست غاية في حد ذاتها، بل هي وسيلة للوصول لمثل هذا الوفاق. وما الانتخابات أو الاستفتاء إلا مجرد آليات تحكم وتضبط هذا الوفاق! والوفاق فقط هي الذي يجنبنا شرور التدخل الخارجي! * تونس - ديسمبر 2009

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.