بَرّنِى» الأخ العباس أبو هالة بصورةٍ من وثيقة نادرة وطريفة، لها قيمة تاريخية ومدلولات اجتماعية واقتصادية وسياسية مهمة. خطاب صادر فى 31 ديسمبر 1939عن المستر جى.سى. سكوت،مدير كلية غردون التذكارية آنذاك، مُعنوَن الى آباء وأولياء أمور الطلاب فى الكلية، ينصحهم بشأن المصاريف الشهرية التى يحتاجها طالب الكلية القادم من الأقاليم ( وأسماه «تلميذ من البلاد الخارجية») والطالب الأمدرمانى. وأهمية الخطاب وطرافته، أورده فىما يلى بكامله وكما وَرَد : ((الخرطوم-كلية غردون فى 31 ديسمبر 1939 حضرة المحترم........ بعد التحية - اعتاد بعض آباء وأولياء امور التلاميذ الداخلية بكلية غردون ان يرسلوا نقوداً لابنائهم اكثر من اللازم وبذلك يتعود التلميذ على التبذير وبالبحث قد وجدنا ان اكثر مبلغ يحتاج اليه التلميذ الداخلى شهريا هو خمسون قرشا وهذا لا يمنع من ان يرسل الوالد لولده مبلغا اقل من ذلك حسب حالته المالية والبيان ا?تى يوضح لكم ما يريد ان يصرفه التلميذ :- واذا راى الوالد ان بعض المصاريف المذكورة بالكشف ليست ضرورية لولده فهو مخيّر فى ارسالها او عدم ارسالها وانى انصح آباء التلاميذ ان لايرسلوا لابنائهم اكثر مما هو موضح وبذلك يساعدوننا على بث روح الاقتصاد والتدبير فى نفوس التلاميذ وتربيتهم على عدم صرف شئ فى غير محله وفائدة ذلك عائدة عليكم حيث لا تتكبدون ارسال مصاريف ربما تصرف فى اشياء غير ضرورية. وختاما اهديكم تحياتى ، (امصاء) جى سى سكوت مدير كلية غردون )) أترك لك أن تقرأ فى الخطاب ما ترى، وآمل ألا تقتُلك «النوستالجيا» ان كنت فى خريف العمر، وتتحسّر على أيام الإنجليز، وأيام الحكم الذاتى، وفترة الديموقراطية الأولى (التى انتحرت بيدها لا بيد عمرو)، وفترة الفريق عبّود، والديموقراطية الثانية ( والتى خُنقت ولم تحبو بعد)، وحتى أيام مايو «اتولد»، وفترة الانتفاضة والديموقراطية الثالثة ( التى وُئدتْ فى طفولتها التعيسة)، وتُغمغم : «ما بكيتُ من شئ إلا وبكيتُ عليه!? وفى الخطاب كما ترى دروساً وعبراً لأولى الألباب ولمن طار لُبّهم على حدٍ سواء، وعلى رأسهم آباء المغتربين (بقرة الحكومة الحلوب التى جفّ ضرعُها ولم يتوقف حلبُها) الذين يُرسلون ابناءهم وبناتهم للتعليم الجامعى (السياحى والشعبى) فى السودان، ويُوفّرون لهم أسباب الراحة، وقدراً من المصاريف الشهرية تكفى لإعاشة «مربوع» كامل فى أحياء الخرطوم الشعبية، أملاً فى غَمْسِهِم فى «الشئ السودانى» قبل فوات الأوان، وحِرصاً على ألا يحتاجوا وهم على البُعد، وتعويضاً لهم ،ربّما، على قبولهم للدراسة فى السودان «الأغبش» عِوضاً عن امريكا واوروبا ( وقد أوصدت ابوابها منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر) وماليزيا وغيرها. وفى الخطاب أيضاً دروس وعِبَر للقائمين على أمر التعليم النّظامى والتجهيل المُنظّم، وحُداة السلّم التعليمى الشائه ناقص الأضلاع، وواضعى المناهج العجيبة التى تنوء بحملها الجبال، تحشو رؤوس التلاميذ بما لايبقَى ولا يفيد، وتُدرَّس فى مدارس عامة وخاصة، لاتفتقر الى المُعلم المؤهّل والكتب والوسائل فحسب، بل تفتقر فى معظم الأحيان «للمساحة» داخل الفصول وخارجها، والملاعب، والمعامل، والحمّامات، وحتى «الضُّل»! وفيه دروس وعِبر لثوّار التعليم العالى الذين ملأوا بقاع السودان المختلفة بالشعارات أولاً، ثمّ بالجامعات «منزوعة الدسم»، فاقدة الشئ، المفتقرة هى الأخرى للمعامل والمكتبات والأساتذة المؤهلين (وحتى غير المؤهلين)، والتى تملأ طلابها علماً ناقصاً، ومهارات ضحلة، ويأساً مريراً فى المستقبل، وقنوطاً مُقعِداً (إلا من رحمةِ الله) و»اللوترى الأمريكى!?. أكتفى بهذا، وأترك لكم قراءة المزيد من الدروس فى هذا الخطاب العجيب، وأضيف بضع ملاحظات هامشية: أولاً، كُتِبَ الخطاب بخط اليد فى نسخ بديع قلّ أن تَرَى مثله هذه الأيام، ولكنّه خلا من علامات الترقيم الأ من «نُقطة» يتيمة فى نهايته، وقدّم صورة لجغرافية السودان الاجتماعية التى أراها تتكرر فى أيامنا السعيدة هذه . كان السودان آنذاك يتكوّن من الخرطوم (مدينة الحكومة والجاليات الأجنبية منذ التركية السابقة)، تَحفُّها جنوب السكة حديد الديوم العشوائية التى كانت أشبه ب «بانتوستانات» تضُم المجموعات والبطون التى خلخل استقرارها زلزال دولة الخليفة عبدالله، والتغيّرات فى بنية النظام ا?جتماعى التى فرضتها دولة الحُكم الثنائى، وأمدرمان (العاصمة الوطنية) التى امتلأت بخليط عجيب من قبائل السودان التى قادتها فترة المهدية ،القصيرة والعاصفة،(طائعةً أم مُجبرة) للاقامة هناك، وباقى المليون ميل مربّع التى أسماها الخطاب «البلاد الخارجية»، وتسمّى الآن «الأقاليم»-وما زالت خارجية!. وكان مُعظم طلاب الكلية القادمين من هذه البلاد الخارجية (وهم قِلّة)ُ، من ابناء زعماء العشائر والأعيان ممن ارتضوا لأبنائهم ذلك التعليم الجديد، ومن كانوا يطيقون تكلفته الباهظة ( خمسون قرشاً بالتمام والكمال). وأى تكلفةٍ؟ عشرون مليماً للحلاقة ( ولا أظنّ ذلك يشمل «المَسَاج»، وحمام الزيت، و»الماسك»، وتشذيب الأظافر). وخمسون مليماً «للبقلاوة والعزائم»! البقلاوة نعرفها، هى «الباسطة» التى كانت تُباع مساءً فى «عربات» زجاجية الجوانب ، تُضيئها «الرتاين» الباهرة، تمتلئ بصوانى الباسطة «المعْطُونة» فى الماء المُسَكّر، ويحرص الجميع على الفوز بالباسطة «الرُّكُن» لكبر حجمِها ويبَاسها النسبى، أما العزائم فلا ندرى ان كانت الخمسين مليما تكفى لشراء الباسطة وإقامة الولائم و «القعدات»، وربما كانت تكفى فى ذلك الزمن ( تدخّل السوق بي قرشين تشترى خروف ورطلين سكر وشاى ويقلبو ليك باقى، كما كنّا نسمع). أو لا ترى أن التاريخ يُعيد نفسه (نوعاً ما)؟ أصبح التعليم الحقيقى فى زماننا السعيد هذا قاصراً على من استطاع اليه سبيلا (أبناء الزعماء والأعيان الجُدد)، واصبحت الخرطوم الكُبرى( بعد أن ابتلعت أمدرمان وبحرى) تضُم رُبع سكان السودان ، قَدِمُوا من أقاليمهِ المنسيّة وريفِهِ الحزين الفقير، ومُدُنهِ وقراه المُهمَلة، الى العاصمة المُتخمة المترهلة التى استأثرت بالموارد والخدمات، وفرص التعليم، والعلاج، والعمل، والترفيه، والفساد! وقد أعاد التاريخ نفسه أيضاً بعد قرن من المهدية بقُدوم المهديّة الثانية بسيوف عُشَرِها وجهاديتها وغزواتها الخارجية ومجاعاتها وعُنفِها وشَططِها واستفراد القِلّة بالسُلطة والثروة، واحتكارِها للحِكمة دون الموعِظة الحسنة! ويُريدون الآن «نهاية التاريخ»، وما دروا أن الأوضاع غير الطبيعية قد تستمر ولكنها لا تدوم!