التحرير هو الإطلاق من القيد أو الوثاق ، وتحرير الكتاب كأنه إطلاق المعاني أو أعادة ترتيبها من محفظة الذهن بحيث توضع في السياق الذي يناسب القاريء. وورد لفظ تحرير وحر ومحرراً في ثمانية مواضيع في القرآن الكريم ، والنظرة الثاقبة لاستعمالات تحرير وحر ومحرراً في القرآن الكريم ، تفيد أن الإسلام يرى في الحرية حياة والإسترقاق نوعا من القتل ، لأن جعل المسترق حراً، يكفرّ عن قتل مؤمن خطأ - فقتل المؤمن الخطأ ، إنقاص لمجتمع المؤمنين واحدا ولا يعاوض هذا النقص إلا بإضافة واحد مماثل كما هو وارد في سورة النساء أية (92) (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة « انظر إلى كلمة تحرير رقبة ، فكأنما الإسترقاق قيد على الرقبة والمطلوب التحرير بفك الوثاق ، والمصطلح القرآني ، يحرك العقل والوجدان ضد عملية الإسترقاق ، حيث دائما المطلوب ككفارة للكبائر « تحرير رقبة « ووردت الصيغة في سورة النساء والمجادلة والمائدة، ومنذ ولادته كدين ، أعلن الإسلام لاهوت التحرير القائم على تحرير الرقبة والعتق بالكفارة ، ولذلك في نظر الثقافة الإسلامية ، أن الذي لا يملك قراره ولا يملك التصرف في مصيره ، حال أسرى الحرب ، من أسرى البدر الذين فك قيدهم مقابل تعليم أبناء المسلمين إلى أسرى غوانتنامو الذين انتحر منهم من انتحر وقتل من قتل وغير المعترف لهم حتى بوضعية الاسير - الذي يعادل المسترق في التاريخ الإسلامي ، ووازن الإسلام بين لاهوت التحرير ومطلوبات العدالة والتمكين . سعى الإسلام لتجفيف منابع الرق وفق معادلة الحر بالحر والعبد بالعبد ، بل إن نظرة المصطلح القرآني للحر تتجاوز قضية أن يكون سيد نفسه وقراره ، بأن يكون محرراً من الضغوط التي ترهن السيد الحر ذاته لسلطة الأبوين أو أية ولاية وعباده لغير الله - كما ورد في قصة مريم البتول في سورة آل عمران أية 35 ( إذ قالت امرأة عمران ربّ إنيّ نذرت لك ما في بطني محرراً) أي أنها عزمت إن رزقت بمولودها أن ترفع عنه قيد الأبوة أو الولاية للوالدين ، بحيث يكون المولود خارجاً عن تسلطهما ليدخل بإرادته في ولاية وعبادة الله - بمعني أن تصبح طاقته وقوته ونفعه للمعبد . لاتزال قضية حرية الإنسان وكيف يكون الإنسان حراً، قضية تشغل بال الدعاة والمفكرين والمشرعين ، ومع إن المجتمعات الإسلامية في تطورها التاريخي ، تراخت أحيانا كثيرة في التماهي مع النص الإسلامي « تحرير رقبة « أو فك رقبة ، إلا أن التجربة الإسلامية عموما، تظل تكشف أن الرؤية الإسلامية ، كانت دائما تتشوق للحرية ، لأن الأصل في الثقافة الإسلامية المستوحاة من النص القرآني « الكرامة البشرية «ولقد كرمنا بني آدم » سورة الإسراء أية 17. ووحدة الأصل «فكلكم لآدم وآدم من تراب» «كل البشر قبضة طين ونفخة روح ، أو كما في النص القرآني سورة الحج آية 5 « فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء » بل إن اختلاف الألوان والأمزجة لا يقلل من إنسانية البشر « ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه » سورة فاطرة آية 38 وفرق بين هذه الرؤية ورؤية مفكري النهضة وعصور التنوير ، الذين كانوا يرون فارقاً في الإنسانية على أساسه اللون والعرق ، وإن الزنج أقل إنسانية من غيرهم ، بسبب علة في الخلق، وتفاوت في الأصل ومونتكييه ، روسو الخ « بينما علة الإسترقاق في الثقافة الإسلامية ، إما أمر واقع آخذ الإسلام في تجفيفه « تحرير رقبة « أو أمر طاريء كالحرب وغيرها. مع المساواة في الأصل الإنساني . ولد الفكر الإسلامي طاقات روحية وعقلية لتوليد الأفكار وتجديد الرؤى ومقابلة المستجدات ومن نواتج الفكر الإسلامي علوم أصول الفقه التي سعت لتوسيع المواعين التشريعية ومقابلة المستجدات عن طريق توليد المعارف من أصولها بالإجماع والقياس والمصالح المرسلة، ولكن غفل العقل الإسلامي جزئيا عن مصدر مهم وهو مقاصد الشريعة الإسلامية ، إذ أن من مقاصد الشريعة حفظ الدين والذي لا يتم إلا بحفظ النفس والعرض والمال وحفظ العرض والنفس لا يتم إلا بحفظ كرامة الإنسان التي جوهرها الحرية - ولكن أية حرية. يجيء مفهوم الحرية في الثقافة الإسلامية ، متوافقا مع حركة المقاصد الشرعية ، والتي عبّر عنها بعض الفقهاء ، بأن الإسلام يتشوق للحرية ، ويتشوق لها ويتجه لها ، لأن السلام جاء لتحرير البشر من عبودية العباد لعبودية الواحد الأحد ومن ظلم السلطان وجور بعض أصحاب الأديان إلى عدل الإسلام ولكن في التجربة التاريخية ، سقط كثيرون من قادة المسلمين أمام امتحان السلطة والجاه والثروة ولم يرتفعوا إلى مطلوبات النص الإسلامي ، ومن ناحية أخرى فإن المتأثرين بروح الحضارة الغربية ، يريدون تعديل جوهر الشرعية السلام حتى تتلاقى مع مفهوم الحرية السائدة في ثقافة العولمة والتي تعبر عنها مثلا إتفاقية سيداو - إتفاقية إبطال التمييز ضد المرأة - والثقافة الإسلامية لا تقبل هذه الإتفاقية مجملا ولا تبطلها . ولكن توافق علي كثير من محتوياتها إلا أنها لا تقبل قاعدة أن المرأة مثلا حرة في التصرف في بدنها وحرية التواصل الجنسي خارج إطار الزوجية وحرية الإجهاض . ولكن كذلك فإن الممارسة الإسلامية والخبرة التاريخية فارقت مطلوبات ومقاصد الشريعة على الأخص في السلطة السياسية التي أصبح الإستبداد والرأي الواحد أساسها في العالم الإسلامي. وفي المرة القادمة نواصل .