ظل الصراع السياسي بين الاسلاميين والعلمانيين في السودان صراعا متجددا ، يشتد أواره احياناً ويخفت احياناً اخرى، ولكن ظلت جذوة هذا الصراع مشتعلة باستمرار تحت سطح الحياة السياسية و بمسميات مختلفة. في الماضي كان يعرف هذا الصراع (خاصة في الشمال ) بين قوى التخلف والرجعية ( والمقصود الاحزاب الطائفية والاسلامية ) وبين قوى التقدم والحرية ( الاحزاب الليبيرالية والاشتراكية ) ، الآن يشار اليه بالصراع بين المعسكر الاسلامي (والغالبية من الاسلاميين في الشمال) والمعسكر العلماني (والغالبية من العلمانيين في الجنوب) . يمكن القول بأن هذا الصراع ( الخفي والصريح احيانا ) كان ولا يزال واحدا من اسباب تعقيدات حل مشكلة الجنوب من ناحية ، اذ ظل التخوف من سيطرة الشمال المسلم على الجنوب ( المسيحي اوغير الديني ) موجودا عند الجنوبيين منذ التمرد الاول في الجنوب عام 1955،و من ناحية اخرى كان هذا الصراع نفسه واحدا من اسباب عدم الاستقرار السياسي في المركز ( او الشمال ) ، خاصة عندما يتعلق الامر بوضع دستور دائم للبلاد . فقد أدى هذا الصراع بين المعسكرين الى انقلابين عسكريين مرة في العام 69 عندما كاد الدستور الاسلامي ان يمرر في البرلمان فى العام 68 ، ومرة اخرى في العام 89 عندما شعر الاسلاميون بمحاولة عزلهم سياسيا لصالح القوى العلمانية في البلاد. سيظل هذا الصراع متجددا كلما دخل السودان منعطفاً سياسياً يستوجب معه تحديد هويته وبالتالى وضع دستور دائم او دستور واحد مشترك للبلاد . لهذا لا نستغرب كثيرا هذه الايام ان ترتفع اصوات العلمانيين المتوجسين خاصة في ظل هيمنة الاسلاميين على مقاليد الامور ، ويزداد التخوف كلما كان الحديث عن السودان الواحد كما لا تستغرب اذا طالب بعض العلمانين التخلي عن الدستور الاسلامي (أو الشريعة ) ثمناً للوحدة بين الشمال و الجنوب. ستظل حل اشكالية العلاقة المتوترة بين الاسلام والعلمانية في السودان قضية تهم الوحدويين بالدرجة الاولى ( في الجنوب او الشمال) اكثر من الانفصاليين. ذلك ان من مقتضيات الوحدة المستدامة الاعتراف بالتنوع و التعدد الدينى و الايدولوجى ..الخ.. فى المجتمع السودانى و بالتالى التجاوب الايجابى مع مستحقاتها. وهو تحدي يجابه الاسلاميين والعلمانيين على السواء ( ليس على مستوى السودان وحده ولكن على المستوى العالمي) ذلك ان التيار الاحادي (في المعسكرين) والذي حاول تبسيط الواقع المتعدد باقصاء الآخر خاصة فى نظام الحكم قد وصل الآن الى طريق مسدود سواء كان في التجارب الوطنية او النظام الدولي . فالاعتراف بالوجود العلماني في الدول الاسلامية من جهة وبالوجود الاسلامي في الدول العلمانية اصبح واقع لابد من التعامل معه بطريقة واقعية و ايجابية تحفظ حقوق الطرفين على اسس عادلة و سليمة. هذه الحقيقة تستدعى مراجعات جذرية في الدساتير الاسلامية والعلمانية على السواء لاستيعاب هذه التعددية . المعروف تاريخيا ان الدستور الاسلامي الاول في دولة المدينة بدأ دستورا شاملا مستوعبا التعدد الديني والتشريعي والاداري في مجتمع المدينة المتعدد ( المسلمين وغير المسلمين ) ، فقد عدد الرسول (صلى الله عليه وسلم) في دستور المدينة اسماء كل المجموعات التى تمثل القبائل و بطونها كوحدات ادارية اقر لها اعرافها وقوانينها ، بحيث لا تتدخل السلطة المركزية الا في حالة الاشتجار و التخاصم بين المجموعات المحلية ( ارجاع الامر الى الله ورسوله- اي وجود قانون اعلى في الدولة يتم الاحتكام اليه). لكن مرت بعد العهد الراشدى عصور اسلامية تخلى الحكام فيها عن المبادئ الاصولية للدستور الاسلامى الراشد(المستوعب للتعدد) مما ادى الى فشل نظمها السياسية فى استعياب التعدد داخل الامة الاسلامية نفسها ، دعك من استعياب التعدد غير الاسلامي فى الدولة . لهذا السبب اتسمت هذه العصور بالعنف السياسى والصراعات الدموية يبن المسلمين فى المجال السياسى اكثر من صراعهم مع غير المسلمين، ومازلنا نشهد حتى في عصرنا الحالي هذا فشل النظم الاسلامية فى مجال التعددية او العدالة السياسية بين المسلمين انفسهم ناهيك عن استيعاب غير المسلمين. اذ ما زال المسلمون فى معظم الدول الاسلامية المعاصرة يستخدمون وسائل العنف السياسي لحل الخلافات السياسية ، بما فى ذلك الاستعانة بقوى خارجية حتى من خارج الملة (افغانستان ، باكستان ، الصومال ، العراق ، الخ) . طبعا لكي يتم تصحيح هذه الاوضاع واعادة العلاقة الصحيحة بين الاسلام و السياسية ، لابد اولا من الفصل بين الاسلام (كدستور متكامل وشامل) وبين ممارسة المسلمين ( غير الراشدة) ، حتى لا تكون العلة فى الاسلام انما تكون العلة فى المسلمين انفسهم وكذلك يجب الفصل ثانيا بين السياسة (الرشيدة) والسياسة ( غير الرشيدة) و ذلك بتحديد مقاييس الرشد. ومقاييس الرشد هنا ان يكون الدستور الاسلامي جامعا وموحداً اولا للمسلمين انفسهم من حيث الاصوالمبادئ الاساسية للاسلام ( هذا يستوجب ان يكون هناك حوار اسلامي/ اسلامي للخروج بدستور متفق عليه) ، ثم ان يكون محافظ لحقوق غير المسلمين كما جاء في القرآن والسنة (بما فى ذلك المواثيق الدولية لحقوق الانسان و الذى لا يتعارض مع المبادئ الاسلامية). اذا كان العهد الراشدى منسوبا الى السياسة الراشدة للرسول (صلى الله عليه وسلم) في المدينةالمنورة وسياسة كل من ابي بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده، فان ابرز معالم هذه السياسة ، كما حللها المؤرخون المسلمون، هي العدالة ،الشورى، حفظ حقوق الناس ، اعلاء المصلحة العامة على المصالح الذاتية ، تحقيق السلام عن طريق التعاقد الاجتماعي والدفاع المشترك عن كيان الدولة.. الخ .... فقد ظلت هذه المبادئ ، هي نفس المبادئ التى ظل الاصلاحيون السياسيون ينادون بها على مر العصور بمن فيهم العلمانيون انفسهم . تاريخيا بدأت بذور العلمانية في الغرب مع ظهور الحركة الليبرالية في عصر التنوير ، فقد بدأت كحركة اصلاحية و تحررية في المجال الديني اولا (تحريرالفرد من السلطة البابوية المتسلطة على حرية التفكير الديني والعلمي -اللوثرية ) ، ثم انتقلت الى مجال الاجتماع السياسي ( تحييد الدولة من الصراعات المذهبية والطائفية) عند ظهور الانقسام المسيحى الى كنائس مذهبية متعددة ادت الى حروب دينية بين المسيحيين. كان العلمانيون الاوائل بدأوا كمصلحين سياسيين، ارادوا ان يحيدوا الدولة في هذا الصراع الدينى حفاظا على السلام الاجتماعي للمسيحيين ككل، بحيث تتوافر الحريات لكل الطوائف والمذاهب المسيحية لممارسة شعائرهم بالتساوي داخل الدولة ، ولا تتقوى طائقة معينة بسلطة الدولة ومؤسساتها على حساب الطوائف الاخرى، وهذا يتوافق مع مبادئ السياسة الرشيدة (الثابتة فى كل زمان و مكان) والتي تراعي المصلحة العامة والسلام الاجتماعي لكل المجموعات المتعددة . لكن التطورات اللاحقة في الحركة الليبرالية العلمانية ادت الى ظهور تيارات متطرفة حرّفت من مبادئ العلمانية والليبرالية الراشدة(الاصلاحية) الى علمانية و ليبرالية لا دينية وغير راشدة .واصبح المبدأ هو فصل الدين عن الدولة بدلا عن تحييد الدولة عن الصراع المذهبي، بل ذهب هذا التيار الى حد ابعاد رجال الدين المسيحي من الدولة ومؤسساتها واقصائهم من العمل السياسي ، وحاول هذا التيار ان يطّهر مؤسسات الدولة من كل مظاهر التدين ، بل واعتبرها جريمة ضد العلمانية ؟! حتى تحولت العلمانية عند بعض المتطرفين الى دين بدلا عن المسيحية . الآن تواجه العلمانية الغربية تحديات كبيرة في مجتمعاتها مع المتدينين من المسيحيين والمسلمين على السواء ، والذين بدأوا يخرجون عن التعاليم العلمانية اللا دينية شيئا فشيئا . كذلك الحركة العلمانية العالمية تواجه تحديات كبيرة في تنامي الحركات الدينية ( خاصة الاسلامية) في النظام الدولي، و هو ما يعرف الآن بظاهرة المجاهدين (او بالارهابيين) . العلمانية الغربية مطالبة الآن بالاعتراف بوجود التعددية داخل اطارها العلماني، والمصلحون العلمانيون المعاصرون يدعون الآن الدول الغربية الليبرالية العلمانية ان تعترف بالواقع المتعدد الديني والثقافي للمجتمعات غير الغربية بما فيهم المسلمون و غيرهم من الديانات و الذين تتنامى اعدادهم في هذه المجتمعات . هذا الاصلاح يتطلب تغيير مفاهيم علمانية سادت في الفترات السابقة بما فى ذلك تعديل الدستور العلماني لاستيعاب التعددية على المستوى السياسى و الاجتماعي . اذاً مبدأ التعددية ومستحقاتها هو التحدي الكبير للمعسكرين الاسلامي والعلماني على السواء ، فكلاهما مطالبان باصلاحات كثيرة في المفاهيم والممارسات السياسية حتى يتفقان مع مبادئ السياسة الرشيدة والتي تقوم على العدل، وتوفير الحقوق والحريات الاساسية، على اسس ومرجعيات صحيحة ( دينية وسياسية). ففى السودان يجب ألا يكون التفاضل فى الانتخابات القادمة بين “الاسلام” و”العلمانية” على اطلاقهما بل يجب ان يكون التفاضل بين الدساتير الاكثر رشدا وعدلا. على المواطنين الاسلاميين والعلمانيين من السودانيين أن يطالبوا المرشحين فى الانتخابات القادمة أن يطلعوهم أولاً على دساتيرهم المقترحة (سواء كانت اسلامية ام علمانية) و مدى التزامهم بقواعد السياسة الرشيدة قبل أن يطالبوهم بالتصويت لهم، حتى يكون المواطنين على بينة من امرهم قبل أن يسبق السيف العزل .. و كان الله فى عون السودان و السودانيين.