الإقليم الشرقي كما قال عنه السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الأصل ومرشد الطريقة الختمية، لم تكن فيه مدينة بالمعنى المتعارف عليه سوى سواكن ومنطقة قوز رجب التي كانت ملتقى طرق القوافل حتى نهاية دولة الفونج، إلى أن جاء الإمام السيد محمد عثمان الميرغني (الختم) في العام 1821م فإختط قريته السُنّية التي عرفت فيما بعد بالختمية حينما أسس فيها مسجده الشهير، وتعتبر الختمية تاريخياً نواة لمدينة كسلا، الأمر الذي جعل الزيارة الأخيرة للميرغني الى ولاية كسلا حدثاً دينياً فريداً تحسس الحزب الاتحادي بين ثناياه ثقله السياسي القديم الذي وجده بحسب الإتحاديين أنفسهم لم ينتقص منه غياب الميرغني (23) سنة (خردلة). ---- اليوم الأول توافدت جماهير الحزب الاتحادي والطريقة الختمية الى مطار كسلا منذ الصباح الباكر في إنتظار مجئ الميرغني الذي يلاحظ أن معظم منتظريه كانوا في آخر زياراته للشرق في العام 1987م بين (نطفة وعلقة وجنين)، وربما كان أكبرهم طفلاً، أما الشيوخ فكانوا أكثر صبراً للإنتظار بينما كان الشباب أكثر شوقاً لرؤية (أبو هاشم) الذي طالما سمعوا عنه في حواديت آبائهم وأجدادهم وفي الكثير من الأدب الختمي. تجاوز الإنتظار الوقت المحدد في الجدول الزمني لزيارة الميرغني ثلاث ساعات لتحلق بعدها طائرة الميرغني التي هتف لها الجميع كباراً وصغاراً (عاش أبو هاشم)، وهم يدركون تماماً أن الطائرة تقل الميرغني لا غيره خاصة وان مدرج مطار مدينتهم ما زال محافظاً على قدمه من قلة إستقباله للطائرات. لم يتح المستقبلون الفرصة لإنفاذ البروتكول المعد من قبل اللجنة المنظمة، فكثيرون منهم أستطاعوا أن يصلوا مقبلين يد الميرغني والأكثر أكتفى بالنظر من على الأمشاط، حتى إذا إنفرج الزحام قليلاً كشف عن ستة اطفال يرتدون علم الحزب، السودان (القديم) ويحملونه مع بعض الصور للميرغني، وتم فتح ممر بشري ضيق يؤدي الى صالة كبار الزوار التي تحطم زجاج مدخلها من تدافع (الفقوس) حينما وصل المنظمون الى مرحلة (الخيار والفقوس) لترحل العربات التي بلغت الألف في حالة سباق نحو ميدان الجمهورية المعد للقاء الجماهيري. الشرطة .. تعامل بحساسية في ميدان الجمهورية كانت هنالك جماهير تنتظر هي الأخرى وجماهير قادمة تم إحتجاز المئات من العربات عند مدخل المدينة حينما ضاقت شوارع كسلا عن إستقبال (ما لم تتطق عليه صبراً)، وتجمهرت حشود بصورة منظمة كان للشرطة القدح المعلى في التحكم على تدافع الجماهير، وحينما أرادت مجموعة تخطى حاجز (السلفان) المعد فقط لترسيم الحدود بين المنصة الرئيسية والجماهير، صدت الشرطة هذه المجموعة بالترهيب دون الضرب مما حدا ببعض المتفلتين لرفع الكراسي في حالة تحد، مما حدا بالمنصة أن تطلب من الشرطة (بي عين قوية) عدم التعرض للجماهير بالضرب، الأمر الذي نفاه أكبرهم رتبة بصورة رسمية أن الشرطة لم تتعرض للجماهير بالضرب وإنما كانت في (خدمة الشعب). فلسفة (العصا) و (الشجرة) على الطريقة الختمية العصا الرمز الإنتخابي للحزب الاتحادي الأصل مجدها خطباء المنبر الإتحادي في كسلا بآيات القرآن وبذات الآيات حذروا من الشجرة الرمز الانتخابي للمؤتمر الوطني مع بعض هتافات التعبئة. فحينما إعتلى المقرئ ليستهل اللقاء بقوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها واهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى)، وقوله تعالى: ( وألق ما في يدك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى)، أما الأستاذ حاتم السر فحذر مستشهداً بقوله تعالى: (ولا تقربا تلك الشجرة فتكونا من الظالمين). حالة إلتباس بعد أن إنفض الجمع من ميدان الجمهورية كان الحديث يدور حول زيارة الميرغني لضريح السيد الحسن بسفح التاكا، وكان قد أعلن الميرغني في خطابه في اللقاء الجماهيري أنه وجه بإستكمال تشييد المسجد الذي قال انه إمتدت اليه أياد بالتخريب في حقبة تاريخية لم يسمها، فتوجه الكثيرون الى ذياك المكان الديني الشهير الواقع بسفح التاكا، حيث إصطف حزام بشري يخيل اليك من البعد أنه سوار بمعصم التاكا الى أن وصل الجمع الى مسجد السيد الحسن حيث العنصر النسوى الغالب بثيابه ذات الألوان الفاقعة في إنتظار التبرك بالسيد الميرغني الذي فضل أن يأخذ قسطاً من الراحة بعد تناول الغداء، وفي الأثناء جاء أحد الخلفاء في زي أشبه بقفطان (أبو هاشم) فتدافعت اليه النسوة متبركات في أذهانهن أنه السيد المنتظر، ألجم الموقف لسان الرجل الذي حاول أن يقول لهن إشارة (لست أنا من تقصدن). اليوم الثاني .. (لكل مقام مقال) الساعة العاشرة تماماً أستيقظ الجميع في هذا الوقت ليلتقون من أماكن متفرقة في موقع الإنطلاق الى منطقة (وقر) التي تبعد ساعاتين من كسلا ذلك المكان الذي كان يطلق عليه الاراضي المحررة للتجمع وشهد إشتباكات دامية إبان المعارضة المسلحة. وقبل ربع ساعة من الوصول الى موقع مخاطبة البجة كانت الحشود (على كل ضامر يأتون من كل فج عميق) فالأبل ما زالت وسيلة التنقل الرئيسية لأهالي (وقر). خاطب الميرغني أهل وقر في أقل من خمس دقائق أكثر من نصفها كان نص بيعة الطريقة الختمية والبقية توجيه بأن (صوتوا للعصا وأسمعوا كلام الخليفة الصادق)، وخمس دقائق أخرى خطاب الطريقة الذي أدلى به الخليفة صلاح سر الختم الذي يوصف بأنه الناطق الرسمي باسم مرشد الختمية، بجانب ترجمة ماقيل من قبل الخليفة الصادق ليهتف بعده أهل وقر (هاش هاشون .. أتنينا أتنينا يا اُثمان). وفي هذا الشأن سأل الصحفيون الأستاذ حاتم السر، أين خطاب مرشح رئاسة الجمهورية فقال ضاحكاً ومتسائلاً (كيف أطرح برنامجي الإنتخابي وهؤلاء لا يريدون أن يسمعوا العبارات السياسية المنمقة مثل الغاء القوانين المقيدة للحريات وما شابهها بل يريدون أن يسمعوا ويطيعوا أبو هاشم فقط). اليوم الثالث .. جولات ماكوكية أكثر الأيام تعباً وآخرها بصحبة السيد محمد عثمان الميرغني فقد إشتملت جولة اليوم الثالث على زيارة لحلفاالجديدة ومنها الى خشم القربة. وفي اللقاءين كان أبوهاشم يجدد البيعة للجماهير ويردد دعاءه الشهير (اللهم تولنا بالرعاية والعناية والسلامة بمزيد إيراد إمداد إسعاد، ذلك خير ذلك من فضل الله، أكفنا يا قابض ياقهار خديعة مكرهم وأرددهم عنا مذمومين مذؤومين مدحورين بخسير تغيير تدمير فما كان لهم من فئة ينصورنهم من دون الله)، ونبه الميرغني أن هذا الدعاء لا يقصد به أحد غير أنه قال: (لكن من وجد حاله يطابق الدعاء مبروك عليه)، ولم ينس أن يزور ضريح السيد إبراهيم الميرغني الذي وورى الثرى في بادئ الأمر بحلفا القديمة ووجه بعدها السيد على الميرغني بنقل الجثمان الى حلفاالجديدة. وفي خشم القربة قوبل الميرغني بالهتافات والذبائح التي تفرقت أيدي سبأ بين أهل خشم القربة فلا ترى طفلاً أو رجلاً إلا وفي يده حفنة من اللحم، وغلبت الأشعار التي تمجد الميرغني والطريقة الختمية على طابع حفل الإستقبال والسعادة كل السعادة لمن حظي بقراءة لقصيدة أو مدح أمام الميرغني الذي وجدت صدىً طيباً في نفس الميرغني الذي كان خطابه لأهل خشم القربة أشبه بال (ونسة) التي تخللتها قهقهات تلقائية من الميرغني والحضور. يتوجه الوفد الإعلامي بعدها الى الخرطوم مباشرة تاركاً خلفه السيد الميرغني وسط أهله وأمامه ذاكرة مكتنزة بأحداث ثلاثة أيام تاريخية.