هذه الذكريات , لا تخضع للتسلسل الزمنى لاحداثها , نستصحب الشخصيات التى أكرمنا بالعمل معها , فى مراحل ومن زاوية مشاهد جمعتنا معا , لذلك لا نوفيها حقها فى تدوين سيرتها ومسيرتها .. ومن هنا تتواصل الذكريات مع عميد الصحافة السودانية , معلمنا الاستاذ بشير محمد سعيد . بعد انقلاب مايو 1969 , اعتقل الاستاذ بشير لاكثر من ثلاثة أشهر ,ضمن مسلسل الاعتقالات فى العهد المايوى . بعدها سافر الى لندنونيويورك .وعاد العام 1975 م لادارة دار الايام للادوات المكتبية .. وكان اول لقاء معه بعد اسبوع من عودته , يتوكأ على عصا , مكسور الساق ! ويحكى لنا كيف ان الحذر لا ينجى من القدر .. كنت فى محطة بمترو نيويورك فى انتظار القطار , عندما اقترب منى رجل مسن ,طالبا منحه نقوداً ليشترى طعاماً.. اخرجت محفظتى لمنحه ما يتيسر، ولكن وفى لمح البصر تحول المسن الى هرقل , اختطف المحفظة واسقطنى على الارض وانكسرت ساقى وفر هاربا بغنيمته ! ويبتسم .. لقد افادنى الرجل بالتوسع فى قراءاتى عن العظام والكسور , وعرفت معادلات تربط عدد اسابيع البقاء فى الجبس مع عدد سنوات العمر , وتعرفت على البقول الغنية بالكالسيوم وفى مقدمتها « الترمس» ووصفات الطب الشعبى ومهارات المعالجين السودانيين امثال بت بتى وود مختار ! وعكف الاستاذ بشير على تأليف سلسلة من الكتب عن تاريخ السودان الحديث .. وانتقل من فيلا العمارات الى قصر فى كافورى , كان من ممتلكات سفارة جمهورية المانيا الاتحادية ومقرا لسفيرها , وادخل عليه تعديلات , مخصصا عدة اجنحه لمكتبته الضخمة ، وكانت ملاذاً لنا ومرجعا نادراً .. وكان يطالبنى بان احضر له بانتظام مجلة (القوم) والمطبوعات السودانية التى اجدها فى المكتبات . كان يقول لى: لا تندهش اذا وجدت مجلتك فى مكتبة الكونجرس الامريكى .. لهم مراسلون فى كل انحاء العلم يمدونهم بكل المطبوعات حتى الاغانى والاحاجى وكتب التسلية! وكان يداعبنى لا تنسى ان تزودنى ايضا بمطبوعات وكالة نوفستى السوفيتية وكنت اعمل فى وكالة انباء تاس ..ورويت له محاولة أمن نميرى , بعد انقلاب 1971 ، لزراعة جهاز للتنصت داخل المكتب .. كانت وسيلة الاتصال الرئيسية لارسال الاخبار فى ذلك الوقت من الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى ,عبر التلكس ,لم نكن نعرف الفاكس وبالطبع الانترنت.. كان المكتب الرئيسى للبريد والبرق ينظم تلك الخدمة . وغالبا يتعطل الجهاز ونستعين بالفنيين من البريد لاصلاحه .. وتعطل ذات يوم واتصلنا بهم .. وجاءوا هذه المرة بسرعة غير معهودة ,كنا عادة نلح عليهم للحضور واحيانا نرسل لهم سيارة لتقلهم .. هذه المرة جاءوا سريعا وفى حشد من سبعة فنيين .. وامضوا اكثر من ساعتين !.. وعندما غادروا، فتح مدير المكتب , جنادى مارونين , غطاء الجهاز , واستل وهو يضحك ، مايكرفوناً صغيراً للتنصت على اتصالاتنا واحاديثنا! كانت النكتة السياسية، ومازالت, من وسائل التعبير والتنفيس فى الانظمة الشمولية ويصنفها علماء الاجتماع ب «هتاف الصامتين» ولم يكن الصحافيون السوفيت متزمتون كما يصورهم البعض كانوا يتبارون فى رواية احدث النكات , خاصة فى جلسات السمر, هل سمعتم آخر نكتة , مثلنا تماما,ويرون ... اشتهر ليونيد بريجنيف , الامين العام للحزب الشيوعى السوفيتى ,بالترف والحياة الباذخة .. وبعد وصوله الى قمة السلطة ,صحب معه والدته لزيارة مسكنه فى موسكو , وشرح لها قيمة الاثاثات والطنافس الموروثة من القياصرة .. وكانت الام صامتة , واخذها بسيارته الفارهة التى صممت خصيصا له , وايضا لم تعلق الام , ثم اصطحبها فى الطائرة الرئاسية المزودة باحدث وسائل الراحة وتنقلا فى شاطىء البحر الاسود حيث « الداتشا» الفيلا الصيفية .. ومازالت الأم صامتة .. عندئذ قال لها: ألا يعجبك ما حققه ابنك من نجاح؟؟ وردت عليه مرتاعة: اخاف عليك يا ابنى لو جاء الشيوعيون الى الحكم ..!! ورويت فى كتابى : الاتحاد السوفيتى : ثلاثة أيام هزت العالم,, حكاية بمناسبة تهاوى تماثيل لينين مع انهيار وتفكك دول حلف وارسو .. كنت فى زيارة لبرلينالشرقية قبل تلك الاحداث ,بدعوة من اتحاد الصحافة فى المانيا الديمقراطية .. وكان واضحا العداء المستتر للالمان تجاه القوات الروسية الموجودة على اراضيهم .. واثناء تجوالنا فى سور برلين الشهير , كان هنالك تمثال ضخم لفلاديمير لينين , يطل من عاصمة المانياالشرقية على برلينالغربية , وكان مرافقى يمتاز بالمرح وقد توطدت علاقاتنا طوال الايام التى امضيتها معه وازدادت بهجتنا بوجود فناننا الكبير عبد العزيز محمد داؤود فى نفس الفندق وامضينا عدة سهرات معه .. وعندما اقتربنا من تمثال لينين قال لى : انظر .. عندما جاء الروس بالتمثال لينصبوه فى عاصمتنا تعمدوا ألا تكون له رجلان .. اتدرى لماذا ..؟ أنهم يخشون ان يقفز الى الجانب الآخر من الحائط !! بعد انتفاضة ابريل , عين الاستاذ بشير محمد سعيد، مستشاراً صحفياً لرئيس المجلس العسكرى الانتقالى , الفريق عبد الرحمن سوار الذهب .. وكنا تلاميذ الاستاذ بشير , نراه أكبر من هذا المنصب ..وناقشناه .. واقترحنا فى زيارة بمكتبه فى قاعة الصداقة ومعى الاستاذ عمر الفاروق شمينا , المحامى ومستشاره القانونى,ترشيحه لمنصب رئيس الجمهورية ,بعد الفترة الانتقالية , وتواترت مقترحات فى اتجاه جمهورية رئاسية وبالانتخاب المباشر .. كان يبتسم ولا يعلق وقد رويت التفاصيل فى مقال سابق بمناسبة الذكرى السنوية لرحيله. بعد صلاة الجمعة فى مسجد الشيخ البشير محمد نور بشمبات , ابلغنى الصديق عمر الفاروق شمينا , بان الاستاذ بشير يريد مقابلتى عاجلا وحدد موعدا مساء نفس اليوم للذهاب معا الى منزله فى كافورى ... وكانت هناك مفاجأة بانتظارى ... كنت مديرا لمكتب «الاتحاد» الظبيانية في الخرطوم عندما أبلغت بأن أسرة الزعيم اسماعيل الأزهري تحتفظ بمذكراته وتتفاوض مع صحيفة «الشرق الأوسط» على شرائها.. اتصلت بالأستاذ عبد الله النويس رئيس تحرير «الاتحاد» آنذاك فطلب مني بذل كل الجهود للحصول على المذكرات، وقال لي بالحرف الواحد: سأترك لك «شيكا على بياض» لإتمام الصفقة.. كانت هناك منافسة شديدة بين الصحف العربية لاستقطاب القارئ السوداني.. وكانت «الاتحاد» الصحيفة العربية الوحيدة التي غطت انتفاضة إبريل 1985 بانفراد لأنها كانت صاحبة المكتب الوحيد في الخرطوم والمجهز بأحدث وسائل الاتصال.. وبمساعدة أحد أصهار الزعيم أزهري تمكنا من اقناع نجله الأستاذ محمد اسماعيل الازهرى بأن ننشر المذكرات في الإتحاد.. وأنجزنا كل الإجراءات القانونية، كما أكملنا المذكرات بفصل جديد عن الأيام الأخيرة للزعيم قبل انتقاله إلى رحاب الله واستعنت بالزميلة المحترمة الأستاذة آمال سراج لإجراء حوار مطوّل مع السيدة الفضلى مريم سلامة حرم الزعيم الراحل، وقمنا بتصوير العديد من الوثائق المهمة.. وتم النشر بعد حملة إعلانية ضخمة في «الاتحاد». كنا جلوساً في حديقة قصره.. عندما استهل الأستاذ بشير الحديث فسألني: هل تعرف من كاتب مذكرات الزعيم أزهري؟ فاجأني السؤال وتلفت ناحية الأستاذ عمر الفاروق.. وقلت: بالطبع.. الزعيم الراحل نفسه.. وبابتسامة حانية أجاب.. أبدا.. أنا كاتب المذكرات.. بلغة ناس «القوم» كنت مثل «الحوار» أتبعه مثل ظله لأختلس جزءاً يسيراً من وقته.. قد لا تعرف مدى انشغال زعيم مثل أزهري.. كان بيته مفتوحا للناس ليل نهار!! وقبل «ابتلاع ريقي» كانت مفاجأة جديدة، عندما أضاف الأستاذ بشير أن هذه المذكرات نشرت في (الأيام) عام 1954 وليس لأول مرة كما قالت «الاتحاد»!! وتلعثمت في محاولتي للاعتذار.. لقد كنت أجهل بالفعل من كاتب المذكرات ولم أسأل ولم يتطوع أحد بإبلاغي.. وحتى أثناء نشرها لم نكن نعرف أنها نشرت قبل ذلك. وقلت للأستاذ بشير إنني أتحمل المسؤولية كاملة ومن حقك التعويض.. وطلبت من الأستاذ عمر الفاروق وضع صيغة نتفق عليها ونعرضها على (الاتحاد).. ووافق الأستاذ بشير.. ولكن فجأة قفز إلى ذهني سؤال.. وقلت لهما، ماذا يحدث لو أن (الاتحاد) طلبت الاحتكام إلى القضاء؟! هنا وبلا تردد قال الأستاذ بشير: لن أتسبب بأي حال من الأحوال في إثارة غبار حول اسم الزعيم أزهري واسرته.. اعتبر الأمر منتهيا!! وبحزم وحسم رفض مناقشة الموضوع مرة أخرى.. وهذه شهادة للتاريخ!! وهناك الكثير والكثير من عطاياه التي تجهل فيها يده اليسرى ما فعلت اليمنى.. لقد تكفل بتعليم العديد من أبناء الصحفيين الراحلين والمتقاعدين حتى تخرجوا في الجامعات.. وتطول القائمة.. فالمروءات وهج جبهته السمراء.. والأمنيات فيض بنانه.. وكان اللقاء الأخير في القاهرة في مايو 1991 . كنت على سفر إلى قطر وأعجبني مظهره.. وقامته النحيلة وأناقته المتزنة.. قلت له: ما شاء الله ما زلت يا أستاذ في شباب الشيخوخة.. فأجابني ضاحكاً.. هناك حكمة قديمة تقول: اعمل كثيرا حتى لا يكون لديك وقت لتكبر.. ثم أضاف من التوراة: هناك وقت للسكوت ووقت للحديث ووقت للزرع ووقت للحصاد...!! الوداع معلمنا..انها حسرتنا الاخيرة لأننا لا نستطيع العودة الى الوراء لتغيير مصيرنا، كما يقول محمود درويش ونردد بعده : لم يتوقف عطاؤك وهو مستمر بغرسك فى ابنائك وتلاميذك.. لكنا معذرة , استاذنا عدنا بعدك اقل شأناً... افراداً وصحافة ووطناً ..!! واعذرنى : استاذى الجليل .. فاضت الدموع من عينى الكليلتين وانا اختتم ذكرياتى معك !!