د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    السجن لمتعاون مشترك في عدد من قروبات المليشيا المتمردة منها الإعلام الحربي ويأجوج ومأجوج    الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    المرِّيخ يَخسر (سُوء تَغذية).. الهِلال يَخسر (تَواطؤاً)!!    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في أزمة وطن مزمنة..قضية- السودان....إلى أين المصير ؟ (24)
تداعيات الإنفصال.. (4) .. مياه النيل وحقوق الرعي
نشر في الرأي العام يوم 20 - 03 - 2010

4 - مياه النيل كثيراً ما يرتبط الحديث عن إستغلال مياه النيل في الجنوب بقناة جونقلي، وجونقلي هي منطقة السدود الممتدة من تلك المدينة/القرية إلى ملتقى نهري السوباط والنيل الأبيض. وبسبب من تك اثف هذه السدود وما يقود إليه من تبخر للمياه التي تعبرها يفقد النيل الأبيض نصف مياهه. وتعود الدراسات حول تغيير مسار النهر لإنقاذ المياه من التبخر وإيقاف الهدر المائي إلى ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أن الحديث الجاد بشأنها من جانب حكومتي مصر والسودان تم في منتصف سبعينيات القرن الماضي في إطار التفاوض بين البلدين للوصول إلى إتفاقية التكامل الإقتصادي. وكان لنا شرف التوقيع على تلك الإتفاقية نيابة عن السودان الذي ضم وفده إبراهيم منعم منصور، عمر الحاج موسى، بشير عبادي ، ويحيى عبد المجيد. كما ضم الوفد المصري، رئيس الوزراء عبد العزيز حجازي، نائبه العالم الراحل عبد العزيز كامل، وزير الخارجية إسماعيل فهمي، وزير الزراعة عثمان بدران، ومستشار الرئيس المصري أسامة الباز. ولعلني أخص بالذكر من بين تلك العصبة النابهة من ذوي الدراية في الوفد السوداني المهندس يحيى عبد المجيد. نخصه بالذكر لإسهاماته الدولية في مجال المياه، ولدوره المركزي في الوصول إلى إتفاق حول إنشاء قناة جونقلي. المهندس يحيى رجل لا يُضاهى كمال فضله في الخلق، غير كمال براعته في المهنة، صححه الله وعافاه. مشروع القناة أخرجناه من الأضابير لحاجة السودان للمياه في وقت كنا نتمنى أن نجعل فيه من السودان سلة غذاء العالمين العربي والأفريقي. وتنص إتفاقية مياه النيل (1959م) في الفقرة (1) من الباب الثالث: مشروعات إستغلال المياه الضائعة في حوض النيل على أن «تتولى جمهورية السودان بالإتفاق مع الجمهورية العربية المتحدة إنشاء مشروعات زيادة إيراد النيل بمنع الضائع من مياه حوض النيل في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال وفروعه ونهر السوباط وفروعه وحوض النيل الأبيض. ويكون صافي فائدة هذه المشروعات من نصيب الجمهوريتين بحيث توزع بينهما مناصفة ويساهم كل منهما في جملة التكاليف بهذه النسبة أيضاً». كما أوردت الفقرة (2) في نفس الباب أنه في حالة حاجة مصر للبدء في تلك المشروعات لمجابهة برامجها للتوسع الزراعي تخطر حكومتها حكومة السودان برغبتها في البدء في ذلك المشروع على نفقتها الخاصة إن لم يكن السودان في حاجة وقتها لمياه إضافية، وبعد سنتين من الإخطار تبدأ في التنفيذ. وعندما يتهيأ السودان لإستغلال نصيبه من هذه المياه الإضافية يرد لمصر نسبة من جملة التكاليف تتفق مع النسبة التي حصلت عليها من صافي فائدة المشروع على أن لا تتجاوز حصة أي من البلدين نصف الفائدة الكاملة للمشروع». هذا النص في الإتفاقية يؤكد أن مصر كانت تتحسب أن حاجتها للمياه الإضافية قد تسبق حاجة السودان، إلا أن الذي حدث هو النقيض، خاصة عندما إتجه السودان إلى تنفيذ مشروعه الطامح: السودان سلة غذاء العالمين العربي والأفريقي. لذلك، أخطرت حكومة السودان الحكومة المصرية بتلك الرغبة إلا أن وزارة الري المصرية لم تَرَ مبرراً لعجلة السودان في المشروع، خاصة عندما طالب المهندس يحيي بأن يتولى الطرفان تكلفة حفر القناة، أي أن تسهم مصر بنصف التكلفة حسبما ورد في الإتفاقية. وفي ذات يوم فاجأت يحيى بصورة من رسالة بعثت بها إلى وزير الخارجية المصري فجاءني مهرولاً ليقول : «لماذا فعلت هذا؟» قلت له: «لأساعدك مع وزير الري المصري كي تحفر القنال» قال كيف؟ قلت له: «معاندة وزير الري المصري لا منطق فيها. ونحن في حاجة إلى الماء. فإن لم تحفر القناة فلا سبيل لتنفيذ برنامجنا الزراعي الطموح إلا بإسترداد السلفة المائية». الرسالة التي بعثت بها لوزير الخارجية كانت تتعلق بالملحق (1) من الإتفاقية والذي جاء فيه: «توافق جمهورية السودان على مبدأ منح الجمهورية العربية المتحدة سلفة مائية من نصيب السودان في مياه السد العالي يمكن أن تواجه بها ضرورة المضي في برامجها المقررة للتوسع الزراعي. ويكون طلب الجمهورية العربية لهذه السلفة بعد أن تراجع برامجها خلال خمس سنوات من تاريخ توقيع هذا الإتفاق». فإذا إستقرت المراجعة على إستمرار إحتياجها إلى السلفة فإن جمهورية السودان تمنحها سلفة لا تزيد عن مليار ونصف المليار من نصيبها بحيث ينتهي إستخدام هذه السلفة في نوفمبر1977». وفي تلك الرسالة أحطت الوزير المصري علماً بأن أوان سداد هذه السلفة سيحين بعد عامين ولهذا نود أن نعرف ما هي الإجراءات التي ستتخذها حكومة مصر لسداد دينها المائي. كنا، بالطبع، ندرك جيداً أن الذي أقر تلك السُلفة المائية: اللواء طلعت فريد رئيس الوفد السوداني في المفاوضات، وأن الذي اقترحها: زكريا محيي الدين رئيس الوفد المصري كانا يعرفان جيداً أن لا سبيل لإسترداد تلك السلفة. فالمياه ليست نقوداً تسترد، أو ديناً ذا أجل، يستعيده الدائن عندما يحين أجله. ومن حسن الحظ أن كان من بين صناع القرار في مصر من يعرف السودان وأهله، ويكن لهم وداً بلا حدود ، ذلكم هو الجغرافي العالم عبد العزيز كامل. ومن موقعه كنائب لرئيس الوزراء لعب كامل دوراً حاسماً في إقناع رجال الري المصري، ليس فقط بالتزام مصر الأخلاقي، وإنما أيضاً بحاجة السودان للمياه. ففي الإجتماع المشترك للتفاوض حول إتفاق التكامل بين البلدين قدم يحيى وثائقه وأدلته فما كان من الوزير عثمان بدران وزير الزراعة والري في مصر- عليه رحمة الله- إلا أن قال: «أنا موافق ولكن لابد من دراسة جدوى». هنا إنتفض كامل ليقول: «دراسة ايه يا عثمان، مشروع القنال شبع درساً من نهاية الحرب العالمية الأولى». كان كامل، وهو الجغرافي العالم، يشير دون شك إلى الدراسات التي قام بها الخبراء البريطانيون في وزارة الري المصرية في عشرينيات القرن الماضي مثل مشروع تحويل جونقلي Jonglei Diversion Scheme) )، وتلك التي قام بها الإداريون البريطانيون في السودان حول المضار البيئية والإجتماعية للقنال مثل تقرير ويليس Willis) مدير أعالي النيل، وتقرير ويندرWinder) ) مفتش الزراف ، ثم دراسات (ب.ب. هاول) P.P. Howell) ) وهي أكثر الدراسات شمولاً في تغطية الجوانب الفنية والإجتماعية للمشروع. وبإنحياز رئيس الوزراء عبد العزيز حجازي إلى نائبه عبد العزيز كامل إلى الجانب السوداني تم الإتفاق على المشروع. تنفيذ المشروع ما كان ليبدأ قبل معالجة مشكلة كبرى هي كيف يتم حفر القنال. فلو قدر لحفر القنال أن يتم بالوسائل التقليدية، حتى في حجمها الصغير يومذاك الذي لم يتجاوز مائتين وثمانين (280) كيلو متراً، لإستغرق الحفر عشرين (20) عاماً. كل هذه التقديرات المحبطة سقطت عند العثور على حفارة كبرى Bucketwhell) ) وأثبتت فاعليتها في الباكستان في الحفر السريع لقناة شاسا - جيلهوم التي ربطت بين نهر الهند Indus)) ونهر جيلهوم في الباكستان. الهدف من المشروع، كما سلفت الإشارة، هو توفير موارد مائية إضافية (أربعة مليارات متر مكعب) لاقتسامها بين السودان ومصر. وعند بدء العمل في المشروع أثيرت حوله ضجة كبرى يحق لك، أيها القارئ، أن تسأل: «وهذي الضجة الكبرى على ما؟» للضجة مسببات موضوعية، كما كانت بعض دواعيها مفتعلة. الأسباب الموضوعية هي المخاوف من تأثير القناة على الأوضاع البيئية في المنطقة (تجفيف الأراضي التي توفر الكلأ للرعاة)، وعلى الأوضاع الإجتماعية (حمل الرعاة على الإنتقال لمواقع أخرى). أما المفتعل فهي الشائعات الزائفة التي إنتشرت حول ترحيل الآلاف من الفلاحين المصريين للمنطقة والتي كان من ورائها سياسيون مناهضون لحكومة أبيل ألير عقدوا العزم على تخذيل حكومته. هذه المخاوف المتوهمة مازالت راسخة عند البعض، وما زال هناك من يستعيدها إلى الذاكرة لهدف في نفسه . نفهم جيداً أن يكون سياسيو الجنوب الذين أطلقوا تلك الشائعات على جهل بكل ما كتب حول القنال منذ عشرينيات القرن الماضي، ولكن من الغريب ان لا يكونوا قد إطلعوا على، أو نما إلى علمهم، البحث الذي حصل به د. جون قرنق على الدكتوراة وموضوعه الآثار الإجتماعية والإقتصادية للقنال. ذلك البحث أكد أهمية القنال لإقتصاد الجنوب والشمال معاً، كما أبرز المخاطر البيئية والإجتماعية التي ستترتب على حفرها، وكيفية درء هذه المخاطر. لهذا لم يكن غريباً ان يناشد قائد الحركة الراحل، الرئيس المصري حسني مبارك في اول لقاء بينهما في أديس أبابا ليبتعث مهندساً مصرياً لصيانة الحفارة الضخمة Bucket wheel) ) التي كانت وقتها تحت سيطرة الجيش الشعبي. نفس الطلب كرره قرنق على المهندسين السودانيين الذين وفدوا للقائه في كوكا دام ضمن وفد التجمع النقابي. الحاجة لا تزال ماسة لتلك المياه، لاسيما بعد ان أضحى السودان واحداً من المناطق الرئيسية لسد الفجوة في النقص العالمي في الغذاء. ففي الإجتماع قبل الاخير (2007) لقمة منظمة الأمم المتحدة للزراعة والأغذية سُميت دول أربع كمناطق تتوافر فيها الفرص لسد الفجوة الغذائية في العالم: أستراليا، كندا، الارجنتين، السودان. ولا شك في أن مليارين من الأمتار المكعبة من مياه النيل يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في تطوير التنمية الزراعية في كل السودان، بما في ذلك الجنوب. فرغم توافر الفرص للري الدَيمي (المطري) في جنوب السودان، الا إن مناطق عديدة منه يندر فيها هطول الأمطار، أو لا يمكن فيها الاعتماد الكامل على الأمطار. نقول هذا بالرغم من الحقيقة المؤسية المتمثلة في أن السودان حتى اليوم لم يستنفد الحصة المقررة له بموجب إتفاقية مياه النيل 1959، ناهيك عن إسترداد السلفة المائية. فحسب تقارير الري يذهب ما يربو على الأربعة مليارات ونصف المليار متراً مكعباً من المياه هدراً في السد العالي ، مع كل دعوانا في الماضي لجعل السودان سلة لغذاء العالمين العربي و الأفريقي ، أو شعاراتنا الراهنة حول إستنهاض الزراعة. رحم الله الراحل جون قرنق الذي كان يطمح دوماً إلى الذرى، ولا معنى للسياسة التي لا تصاحبها آمال كبار تتجاوز الوصول إلى سدة الحكم. كان يقول لنا في زمان ظن فيه أن مشاكل جنوب السودان في طريقها إلى الحل بعد إتفاقية السلام الشامل:» بعد أعوام سينسى الناس مشكلة الجنوب، ولهذا فمن الخير لنا أن نفكر منذ الآن في ان يصحب حفر قناة جونقلي حفر قناة اخرى تتجه من النيل الأبيض عبر حفافي جبال النوبة إلى غرب السودان»، فتلك هي نقطة وميض النار المقبلة (falsh point The next). مهما يكن من أمر، فإن قضية مياه النيل لم تعد اليوم قضية تعني السودان ومصر وحدهما كما كان الحال في اتفاقية مياه النيل لعام 1959 والتي تم الإتفاق عليها قبل صدور أحكام هلنسكي حول إستخدام مياه الأنهار الدولية 1967م (أصدرها إتحاد القانون الدولي في دورته الثانية والخمسين). تلزم تلك الأحكام الدول النهرية بأن تأخذ في الإعتبار مصالح الدول النهرية الأخرى عند إستخدامها لمياه النهر أو إقامة أي منشآت فيه تؤثر على مصالح دول الحوض. وعقب أحكام هلنسكي كلفت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة القانون الدولي بالمنظمة بتطوير أحكام هلنسكي بهدف حماية وإدارة المجاري المائية الدولية (أي تلك التي تعبر أكثر من قطر أو تؤثر على أو تتأثر بحوض المجرى) في الحاضر والمستقبل . وعند فراغ اللجنة السادسة (اللجنة القانونية) للجمعية العامة من دراسة تقرير لجنة القانون الدولي رفع الأمر للجمعية والتي اقرت في 21 مايو 1997 اول إتفاق أممي حول إستخدام المجاري المائية لغير اغراض الملاحة. (Convention on the Law of Non-navigational Uses of International Waterresources (CIW)) وبالرغم من أن (103) دولة من دول العالم أجازت تلك الإتفاقية ولم تعترض عليها إلا ثلاث دول (تركيا، الصين، بورندي) في حين إمتنعت عن التصويت 27 دولة منها من دول حوض النيل (مصر، إثيوبيا ورواندا) إلا أن الإتفاقية تمثل المرجع القانوني الدولي الضابط لإستغلال مياه المجاري الدولية . وعلى كل، بصرف النظر عن الإتفاقية الأممية فإن مياه النيل أضحت اليوم موضوعاً تُعنى به دول الحوض كلها في إطار المشروع الذي يعرف بمبادرة حوض النيل. تضم تلك المبادرة بورندي، جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومصر، وإثيوبيا، وكينيا، ورواندا، والسودان، ويوغندا وتنزانيا. في إطار هذه المبادرة تتم معالجة جميع المسائل المتعلقة بتنمية الموارد المائية، ودعاوى الدول النيلية
حول حقوقها في المياه، والمحافظة البيولوجية والبيئية على الحوض، وتوفير الاحتياجات الزراعية للدول المشاطئة بما في ذلك دول المنبع التي لم تحصل في الماضي على أي نصيب من مياه النيل. في إطار المبادرة تمت انجازات مهمة مثل تدريب الكوادر، رصد مليار دولار لمشروعات في دول حوض النيل الشرقي (السودان ، مصر ، اثيوبيا) وحوض النيل الجنوبي، وضع تصور لقيام مفوضية لحوض النيل على غرار المفوضيات التي تشرف على نهر الميكونق (تضم تايلاند، لاوس، كمبوديا، فيتنام) أو نهر الدانوب (تأسست في العام 1998م وتضم أربع عشرة دولة). وعلى ضوء كل ذلك، أضحت قضية مياه النيل موضوعاً يخضع للتفاكر بين كل الأطراف ولا يقرر في أمره طرفان. وبدون شك فإن جنوب السودان - إذا انفصل عن الشمال - سيكون جزءاً من مبادرة حوض النيل إذ تعبره روافد مهمة منها ما ينبع في يوغندا (بحر الجبل)، أو إثيوبيا (نهر السوباط)، كما يضم عدداً من الأنهار والبحيرات التي تغذى النيل. 5 - حقوق الرعي كثيراً يرد الحديث بقلق وتوتر عن حقوق الرعي المشروعة لقبائل الرحل الشمالية. وهذا ما ينبغي أن لا يكون. فحتى في سني الحرب ظلت الحركة الشعبية تضمن حقوق الرعي التقليدية في جنوب السودان لهذه القبائل. وإن كان ذلك الحراك السلمي قد أُحبط في بعض الأحيان، فمرد ذلك أن بعضاً من تلك القبائل وجدت نفسها في أتون حرب لم تشنها إبتداءً، ولم تَجنِ فائدة منها في النهاية. إزاء هذا، لا يتوقع المرء أن السياسات التي اعتمدتها الحركة إبان الحرب ستبطل في وقت السلم، حتى وإن رغب في ذلك الغلاة الذين يدعون لقطع الحبل السري بين الجنوب والشمال. ولعل في بروتوكول أبيي ما يطمئن المتخوفين إذ صُدِّر ذلك البروتوكول بمبادئ عامة أولها « يحتفظ المسيرية والأشخاص الآخرون بحقهم التقليدي لرعي الماشية وتحرك الأفراد عبر إقليم أبيى». إلى ذلك نضيف أن رئيس حكومة جنوب السودان لم يدع فرصة أتيحت له إلا ودعا فيها للتفاعل السلمي بين الرُحَّل في الحدود بين الشمال والجنوب، ولإحترام حقوق الرعي التقليدية. وفي زيارته الاخيرة لجنوب كردفان (7 يوليو 2009م) لم يدع في الأمر زيادة لمستزيد أو متزيد. من جانب آخر، من الضروري أن لا نرهن أنفسنا للنظرة المحلية الضيقة في مثل هذه القضايا. فقضايا الرعاة عابري الحدود، مثلها مثل مياه النيل، لم تعد أمراً ثنائياً. فالاتحاد الأفريقي، مثلاً، وعياً منه بمشاكل الرعي العابر للدول، يعمل الآن على وضع إطار لسياسة الرعي عبر أفريقيا بغرض ضمان الحقوق التقليدية، ومعالجة جذور ديناميكيات الصراع فيما بين الرعاة، من ناحية، وبينهم وبين الدول من ناحية أخرى. وفي يوليو من العام 2007م اجتمعت خمس عشرة (15) دولة أفريقية في ايسولو (كينيا) للاتفاق على إطار قاري للسياسة الرعوية. بالمقابل أسست منظمة الإيقاد آلية للإنذار المبكر تعين على الاستجابة السريعة للصراعات عبر الحدود الرعوية. لهذا، يجدر بحكومتي الجنوب والشمال الاستفادة من هذه الآليات في معالجة المشاكل المزمنة حول الرعي، رغم أن المرء لا يتوقع نزاعاً على حدود الشمال والجنوب ليس فقط بحكم التساكن بين هذه القبائل، بل ايضاً بسبب من التمازج والتزاوج والمصالح الإقتصادية المشتركة. ففي كل الحالات التي وقع فيها خلاف، كان للسياسة ، دور كبير في إثارة أو تأجيج النزاع.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.