مفاعلات تخصيب ,المكايدات والمناورات و»الخوازيق « , اصبحت سلاحاً استراتيجياً فى الصراع السياسى بالسودان .. وبرع زعماؤه فى انتاج مخزون هائل من المخصب والمنضب والناضب فى حربهم المستعرة منذ العام 1956 .! ويجد الدارسون للعلوم السياسية , وخبراء مراكز الدراسات، والدبلوماسيون الاجانب، تجسيداً حياً لنظريات واطروحات متداولة فى الكتب وقاعات المحاضرات , ويسعدهم الحظ او يشقيهم ، بمعايشتها واقعاً على ارض السودان الخصبة.! والشقاء يأتى من المتابعة اللاهثة لملاحقة فصول مسرح اللا معقول فى السياسة السودانية , مما دفع الاستاذ محمد حسنين هيكل للقول , فى الستينيات من القرن الماضى : السودان ، مقبرة الدبلوماسيين , يرسلون تقاريرهم صباحا , ثم يضطرون الى نفيها مساء !ومن الذين ذاقوا عذابات المشهد السياسى السودانى , ذلك القائل : لن يفهم تقلبات السياسة فى السودان الا نبى او مجنون .! وعندما اعلن الرئيس جعفر نميرى قوانين سبتمبر الاسلامية العام 1983 قال قولته الشهيرة « هذا خازوق( غزيتو) ولا يستطيع احد غيرى اقتلاعه» ! وقد صدق فى قوله , كما ابدع الشاعر مظفر النواب فى وصفه لمثل هذه المواقف: هذا «حاكم» يستأنس بالخازوق ..! وذلك حزب يتخوزق مختارا.....! وكم من حزب تخوزق مختارا فى هذه الانتخابات التى نتابع مشاهدها هذه الايام , ونفاجأ بتطوراتها ومتغيراتها المذهلة .؟. كم من حزب تاب واعلن توبته وبعد ساعات تاب عما تاب منه !., ليواصل امتطاء حصانين واحيانا ثلاثة فى آن واحد..! احزابنا التى تعانى من فقر الدم الديمقراطى فى قياداتها , تدور مساراتها فى سياقات الايمان الوهمى بالالهام والتميز, بينما الوطن منذور للطغاة ,بكسب أسهموا بانفسهم فى صنعه وترسيخه بالمكر والمكايدات والمناورات ..! موروثات السياسة السودانية منذ مؤتمر الخريجين فى الاربعينيات الى تحالف قوى اجماع جوبا العام 2010 م تأصلت على قواعد المناورات السياسية وثقافة التحالفات والتحالفات المضادة ..! نجحت المناورات السياسية فى نيلنا الاستقلال بتضارب المصالح البريطانية والمصرية واستمر هذا النهج لينقسم الصف الوطنى بالاستقطاب الطائفى ويتصاعد الصراع الى اقصى درجات النكاية ليسلم حزب الامة الحكم فى 17 نوفمبر 1958 الى الفريق ابراهيم عبود, وتستمر النكايات لينضم حزب الشعب الديمقراطى الى المؤيدين بمباركة السيدين وتصدر مذكرة « ، كرام المواطنين» ومنذ ذلك الوقت المبكر من تاريخ السودان ,لم يتوقف زج القوات المسلحة فى صراعات السلطة . وتوالت المراحل , ثورة اكتوبر 1964 ثم رفض النظام الديمقراطى لحكم المحكمة العليا باعادة نواب الحزب الشيوعى الى الجمعية التأسيسية ،ليمهد الطريق مجددا للانقلاب العسكرى فى مايو 1969 بقيادة , جعفر نميرى ,وبدعم من الحزب الشيوعى,.والذى اختلف معه العام 1971 وتتصاعد المواجهات بقيام الجبهة الوطنية الديمقراطية , وتصل الذروة بمحاولة غزو الخرطوم العام 1976 ثم تنقسم المعارضة بمشروع المصالحة الوطنية ويستمر الصراع حتى انتفاضة 6 ابريل 1985لتعود الديمقراطية , مصطحبة معها كالعادة ، ثقافة الكيد والمناورات، وتتوج بانقلاب يونيو 1989 , بتدبير الجبهة القومية الاسلامية .. ونعود مرة اخرى الى المربع الاول وينشأ تحالف جديد، كان الاقوى، عتادا وفكراً وتمثيلاً للقوى الرئيسية فى البلاد بما فيها ولأول مرة ، الحركة الشعبية والعديد من التنظيمات الجنوبية ليرسى ميثاق القضايا المصيرية فى اسمرا العام 1995م وفقا لدراسات جادة, الملامح الاساسية لحكم راشد يحقق وحدة البلاد ويزيل الغبن والضغائن، ولكن دوام الحال من المحال فى أعراف أحزاب السودان , عادت مجدداً الى أسلوب المصافحات بيد واخفاء الخناجر باليد الأخرى,! وتفتت التحالف عبر محطات تهتدون , وتفلحون , ومصالحات جيبوتى وطرابلس والقاهرة !, وحدها الحركة الشعبية , استوعبت الدرس وتعاملت مع الجميع , حكومة ومعارضة , وفقا لاجندتها ومصالحها , وحققت أولوياتها فى مشاكوس واخيراً عبر استغلال تحالف قوى اجماع جوبا , الذى شكل مرحلة فارقة فى تحالف الشعارات، مؤكداً المصالح أولا وأخيراً ولا يجرب المجرب ! والسؤال المهم .. هل ستحسم نتائج الانتخابات والاستفتاء على تقرير المصير , صراعات السودان ,؟ بالطبع ستكون النتيجة البدهية لصالح الشريكين فى الشمال والجنوب,وفقا لاجندتهما ,المعلنة وغير المعلنة؟؟ ومع ذلك سيستمر الصراع ! لقد اصبح السودان فى قلب العاصفة , نتيجة لقصور قياداته , فى فهم واستيعاب اهمية بلد فى حجمه « مقيداً بتضاريس الجغرافيا و متصلاً بهواء وأهواء الثقافات المحيطة به والتى تهب عليه « بلد يجاور تسع دول يحاول كل مائة عام التبشير بمشروع حضارى ويجيش شبابه وشيوخه لتحقيق هذه الرسالة التى لا يستطيع تحقيقها الا بالشعارات والحناجر القوية .. ! من هنا اصبح جلياً كيف تدير الدول النافذة فى عالمنا اليوم , أزمات السودان, بالارتكاز على اسس واضحة فى التعامل معه:» تنظيم اللا استقرار فى السودان , وضبطه لجعل سائر القوى المتصارعة بحاجة اليها ودفع اللا استقرار الى الحدود القصوى ليقود الى التقسيم وصعود الحركات التى تدعو للانفصال على اساس عرقى او جهوى لابراز الخرائط المدفونة تحت الخرائط الرسمية الى العلن ..من هنا كان زلزال دارفور بعد شهور قليلة من اتفاقية مشاكوس , والمقدمات تنبئ بمفاجآت ,فى اتجاه , أشغل أعدائى بأنفسهم !!» ووفقاً لنظرية الترويع :» تحريك الاحداث بفعل الرعب والانفعال , لتقع تصرفات خاطئة , تقود الى الاسراع بتفجير الاوضاع , وخلق الواقع بالايحاء»وهنالك الكثير من البؤر التى تساعد على انجاز هذه الاهداف ..! ويسهل اشعال الحرائق,فى غياب المؤسسية التى تضبط قرارات وتصريحات المسؤولين والخصوم وانفعالاتهم ,» زلات اللسان الطائشة مثل انطلاق الرصاصة لايمكن استرجاعها» ومن المؤلم حقا توظيفها فى الانتقام الشخصى لتصفية الحسابات، دون اعتبار للنتائج..وكلنا نعرف فى العالم الثالث خطورة النيل من اعرض الناس شعوبا وقبائل..! ، و ليس من المروءة استغلال سقطات خصومنا , حتى لو تأكدنا منها ,لان هناك معايير اخلاقية يجب عدم تجاوزها، ومسؤلية وطنية تحد من اندفاعاتنا لتأجيج الفتن بأى ثمن.! واذا بدأ المرء فى السقوط، فلن يقف إلا فى القاع ! ماذا تبقى من العمر يا هذا ، لنضيعه فى فاحش القول وثلم الاعراض.» ..؟ لا نملك ونحن شهود على هذه المرحلة من تاريخنا الا ان نردد مع «كريون « احد ابطال مسرحية (أوديب ملكا): لقد كانت حياتنا صعبة ولم يرفق القدر بضعفنا .. لكن علينا أن نتوكأ على ما بقى فينا من عزم وارادة , ثمة مراحل لابد أن نقطعها على الطريق نفسه !!