منذ ثلاثين عاماً ظل سيمون تيسدال يحمل أقلامه وأوراقه ورؤيته الثاقبة، وفي كل مرة يخرج سوق التقنية عجيبة من عجائبه يقوم الصحفي البارع بضمها إلى حقيبته المستعدة دائماً: آلة تسجيل، هاتفاً نقالاً، أو كمبيوتراً محمولاً، أو كاميرا رقمية ! ومنذ ثلاثين عاماً ونيف لا يكاد يمضي أسبوع دون ان يتحسس المحرر المعتق جواز سفره المثقل الصفحات بأختام رجال الهجرة وضبط الحدود بين الولاياتالمتحدة، والخليج، وآسيا، وافريقيا، وبنما، هاييتي، العراق، والسودان. دخل تيسدال قبل ثلاثة عقود إلى قسم الشئون الخارجية في صحيفة الغارديان البريطانية، التي ظلت تصدر منذ السنة التي غزا فيها محمد على باشا بلادنا قبل ما يقارب القرنين ولم تتوقف، ومنذ دخوله الأول ذاك لم يبرح تيسدال ذلك القسم حتى الآن. دخل محرراً ناشئاً ويجلس اليوم على طاولة ضخمة كمساعد لرئيس تحرير ثاني أكثر الصحف الصادرة باللغة الإنجليزية قراءة على شبكة الإنترنت بعد صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية. حفلت سيرة تيسدال بشهود أحداث عظام من حروب، وكوارث، وانقلابات، وانتخابات، وثورات وثورات مضادة، ومجاعات، ودارفور! زار الفاشر مرتين والخرطوم، وانشغل بتداعيات قرار المحكمة الجنائية الدولية فعاد إلى السودان ليتعرف على (سمح القول) والحقيقة من بعض الشخصيات العارفة، وسيزور الخرطوم هذا العام كما أبلغني. ------- خلال الأشهر الأربعة الأخيرة كتب تيسدال ثلاثة مقالات مهمة وضعته بارتياح ضمن قائمة مستهدفي جماعة شن السلام Waging Peace) ) وتحالف انقذوا دارفور وأنصارهما. هاتان جماعتان تسعدهما دائماً أخبار استمرار الأزمة السودانية لكي يضمنا استمرارهما وتمويلهما ضمن اشياء أخرى. إنهما مثل متطوع المطافيء الذي لا يمكنه اكتساب الخبرة إلا في حالة حدوث حرائق. في أول العام كتب تيسدال تحت عنوان (السودان يتأهب للتغيير) أشار فيه إلى أن بلادنا مقبلة على مرحلة مهمة في تاريخها، وأوضح أن كثيراً من النجاح قد تحقق رغم البطء. في ذلك المقال قال الرجل «البغلة في الإبريق» بشجاعة حين اشار إلى العنف الذي يجري في الجنوب الآن يعتبر مشكلة أكبر مما يدور في دارفور (الغارديان 7/1/2010). *** الشهر الماضي عنوَن تيسدال عموده ب (قصة نجاح افريقية في السودان) وصف فيه إجراء الإنتخابات ب «اللحظة التاريخية المهمة» وعاب على العالم الغربي إغفاله لها بسبب تركيزه على نقد افريقيا وليس على الإحتفاء بها. وقال إن هذه الإنتخابات «تأتي بالرغم من العداء الغربي المستمر ضد حكومة الخرطوم وتوجيه الإتهام لقائده، الرئيس عمر البشير، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. إنها مهمة سياسية ولوجستية كبيرة في أكبر بلد إفريقي، لكن حتى الآن ومع دعواتنا الصالحات، فإنها تسير سيراً حسناً» (الغارديان 16/3/2010). و سخر تيسدال ممن كانوا يعولون على المحكمة وقال إن توقعاتهم بأن تهمها «ستقوِّض إتفاقية السلام الشامل وجدول الإنتخابات، وستزيد من عدم استقرار البلاد قد أثبتت أنها بلا أساس» وأشار إلى أن مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية قد تجاوز دوره المنوط به. قبل شهر كامل كان الصحفي الحصيف يدرك تماماً أن الإنتخابات قائمة -لا محالة - فيما تحالف جوبا وأحزابه المتنافرة تأمل في تأجيل المضي إلى صناديق الإقتراع وكأنها أتت بغتة. منذ خمس سنوات يعلم العالم إن إتفاقية السلام الشامل تلزم حكومة الوحدة الوطنية (الإنتقالية) بإجراء إنتخابات تمهيداً للإستفتاء، لكن أحزابنا - للدقة أغلبها- رأت أن تضع عقلها في خزانة وتذهب وراء قلبها لتطلب من الحركة الشعبية مقاطعة العملية الإنتخابية وتقويضها والبحث عن بديل يمكنها من الوصول إلى السلطة دون المرور ببطاقات الإقتراع. جهلت هذه الأحزاب ما عرفه الخبير الأجنبي البعيد من أنه يمكن لحزبي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية أن ينجزا أعمالهما حين يشاءان أو كما نقل تيسدال عن ألكس دوفال. الفرق بين تيسدال ودوفال هو أن الأول محايد ويؤدي عمله من بعيد بينما الثاني معارض للحكومة في هيئة خبير، لكن هذه حكاية مختلفة. *** يوم الجمعة الماضي 9/4/2010 كتب تيسدال مقالاً نال حظاً جيداً من الذيوع والإنتشار في الوسائط العربية بعنوان (لا تسيئوا لانتخابات السودان) وقد ترجمت قناة الجزيرة العربية بعض مقاطع منه تحت عنوان (لا تزدروا انتخابات السودان). نشر المقال برفقة صورة لرجل يقبل لوحة دعائيه للرئيس البشير بالزي العسكري في تظاهرة ضد مذكرة محكمة الجنايات الدولية بادئاً بالقول إنه بالرغم من أنه لم يتم الإدلاء بصوت واحد (وقت كتابة المقال) إلا أن مجموعات الضغط الدولي وخصوم الحكومة المحليين قد بدأوا في الإصطفاف للإساءة للعملية. « إن جوقة الإدانة هذه تبدو مبتسرة قليلاً» أي أنها قد ولدت قبل موعدها الطبيعي « كما أنها تخطيء الهدف» وواصل تيسدال شاناً هجوماً قاسياً على المدعي العام للمحكمة الجنائية. إتصلت بالصحفي الغربي المرموق، الذي قدم للخرطوم لمحاورة الوزير أحمد هارون عقب إصدار مذكرة مشابهة بحقه، في محاولة للتعرف على كيف يتكبد الرجل هذا الرهق وهو يكتب في صحيفة غربية مقروءة بثقل الغارديان خصوصاً وإنه معلق الصحيفة حول الشئون الخارجية والمشرف السابق على الشئون الخارجية في (الأوبزيرفر) التي تصدر عن نفس الدار المالكة لصحيفته، وبالتالي فإن كلمته لها وزنها الكبير. بوضوح قال لي تيسدال» إنني أعتقد أن المفهوم الغربي للسودان قابل للتضليل، بسبب الحاجة إلى المعلومات وبسبب التحيز السياسي والديني. لقد حاولت النظر إلى القضايا بطريقة مختلفة، وهذا كان أمراً مثيراً للجدل هنا لأن بعض مجموعات الضغط الغربية لا تريد لنا أن نقول أي شيء إيجابي عن السودان» وهذا صحيح بالفعل فقد قامت مجموعة (شن السلام) بالرد على مقاله (قصة نجاح افريقية في السودان) بمقال كتبته لويز رولاند-غوسلين بعنوان (من المبكر جداً الإحتفال بالديمقراطية في السودان). المهم إن الصحفي البريطاني المخضرم لا تعوزه المعرفة ولا الخبرة ولا الحياد المهني والإستقامة لكي يقول رأيه بشجاعة كأفضل ما يكون الكاتب والصحفي، إذ كتب ساخراً: أن هناك جماعات خاصة مثل (شن السلام) و(تحالف انقذوا دارفور) و (لويس مورينو أوكامبو) لديهم أجندة خاصة ضيقة تضع قضايا مهمة الحكم الديمقراطي وتطبيق إتفاقية السلام الشامل التي أنهت حرباً أهلية مدمرة في المرتبة الثانية بالنسبة لقضاياهم. وانتقد تيسدال ما قالته (صوفي ماكان) من جماعة (شن السلام) الذي وصفت فيه عملية الإنتخابات بأنها لا يمكن إنقاذها، كما انتقد أيضاً محاولة جماعة (تحالف انقذوا دارفور) لاستغلال المقاطعة الجزئية لبعض أحزاب المعارضة للإقتراع، ودعوة الولاياتالمتحدة وبريطانيا وغيرهما لعدم الإعتراف بكل العملية الإنتخابية وإدانة ما اسمته ب «الحكم الديكتاتوري» للبشير. تيسدال، الموقن بالمستقبل العظيم للشعب السوداني - كما اسر لى- والمقتنع بأن لدى شعب السودان القدرة والدافع لبلوغ ذلك المستقبل لم يتوار ليعلن لي أسفه على المقاطعة الجزئية لبعض الأحزاب المعارضة للإنتخابات، وقال إنه لا يعتقد أن هذا في صالح الشعب، وأن لديه يقيناً بأن الكثيرين من نشطاء تلك الأحزاب لا يتفقون مع قرار المقاطعة. نعم صدقت يا سيمون تيسدال فقد بدأ البعض بالإنسلاخ من أحزابهم التي أرادت أن تجمد إرادتهم في انتخابات لا يمكن أن تنعقد بناء على رغبة تلك الأحزاب. *** عموماً فإنني أقول لمن لمسوا في آراء مساعد رئيس تحرير الغارديان سيمون تيسدال حياداً وصدقاً وحرفية، إنني أبلغت عنهم الصحفي الكبير إننا في السودان نقدر مهنيته ومعرفته وسعيه المطلق نحو الحقيقة. قلت له إن من الطبيعي جداً أن نختلف معه فيما يكتب وألا نتفق معه فيما يرى لكننا نستمع إلى صوته المتفرد دوماً بإحترام.