هذه الصالونات النادرة المتخيرة في العاصمة الوطنية تجمع إليها الصفوة النادرة من أهل ذلك الزمان 1928م، ولعل ما ينسرب منها برغم ضآلته وسط هذا المحيط البشري الذي يشكل سكان أم درمان فانه يبلور إبداعات ذوقية ومناضلات سياسية قد لفتت إليها «العسس» وشغلت اداة مخابرات الانجليز.. كان الصالون، كما اوضحنا من قبل حلقة عامرة من حلقات السياسة والفن والادب ولو لا سلطة الكبت وذهاب الحرية وقهر الاستعمار لما كان شأنها باليسير في تاريخ أدبنا ونضالنا وفننا برغم غياب الرغبة في الظهور وتلميع الشهرة. في احدى اللوحات النادرة التي خلدها لنا أديبنا الرائع حسن نجيلة - يرحمه الله - ففي هذه الاسطر نقرأ: «بلى.. لقد كانت فوز فوق ما سمعت وعلمت تسمع إلى الشعر والنقاش الأدبي فلا يخطئها الفهم وتشارك في ذلك بذكائها الفطري اللماح» ويقول: وما على لوحدثتك عن جلسات أثمرت أدباً وفناً وهيأت نفوساً للعمل الجاد الشاق في سبيل هذه البلاد. هكذا جاء التلخيص لفحوى الصالون ووصف عطاء مرتاديه وبهذا القدر القليل البارع من الكلمات والتعابير المباشرة. قوام تلك الجلسات الخصبة شباب متوثب بدأ يصارع الاستعمار مع انعدام التكافؤ في زمان لايدور فيه الحديث عن نضال الاستعمار إلاّ همساً. ها نحن داخل الدار وفي قلب الصالون الذي نسق بيد فنان صانع «واي يد أبدع من يد «فوز» في التجميل والتنسيق. ونعود إلى استاذنا نجيلة فنقرأ قوله: «دعني اعرفك ببعض الجالسين.. ألا ترى هذا الأسمر الفاره المنطلق الاسارير؟ إنه فنان الجيل الملهم خليل فرح.. ألا ترى هذين اللذين بجانبه يعابثانه.. توفيق صالح جبريل ومحيى الدين جمال أبوسيف، أما ذلك الفتى الذي يبدو كالحالم وفي يده أوراق يمعن النظر فيها فإنه الشاعر مكاوي يعقوب لعله يراجع قصيدة سيدفع بها للنشر وسنقرأ هذا الشعر الذي جعله يحترق ويذوي في ديوانه (آمال وآلام). بالطبع هناك آخرون دعهم ولنقل عنهم إنهم (الغاوون) الذين لا بد من وجودهم حيثما وجد الشعر والفنانون. فوز تتوق إلى صوت الخليل فتتوسل إليه بعينيها الساحرتين أن يقول شيئاً.. إنها قد لا تتحدث ولكن عينيها تفصحان عن رغبتها ويفهم عنها الخليل، ما تريد.. ويمسك بالعود.. ويعبث بأوتاره في رقة وعذوبة.. ويصيح به محيى الدين «أنشدنا ما لحنته من شعر عمر بن أبي ربيعة» والخليل أول فنان سوداني يلحن الشعر العربي الفصيح ويغنيه فيضيف بذلك ثروة جديدة للغناء السوداني. وينطلق صوت الخليل صافياً عذباً مع نغمات العود. ويعلو صوت محيى الدين وهو يعابث الرفاق قائلاً: «ألا أسمعكم آخر ما استحدثه توفيق من شعر؟ ويلتفت إليه الرفاق مرهفي الأسماع ومنها: حليها نفس مهذبة وشباب ريق لبق أو تغنت بيننا خشعت حولها الآذان والحدق ونجوم الليل ذاهلة لجفون هدها الأرق (يتبع)