وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من رواد المدرسة الفنية الأولى
نشر في السوداني يوم 15 - 06 - 2012

من رواد المدرسة الفنية الأولى
الأربعة الكبار خليل فرح و"سرور" وعمر البنا وكرومة.. إنهم فلتات الزمن ورموزه وعبقرياته ومصابيح إنارة العقول تميزوا بملامح تعبر أصدق تعبير لأغنية الحقيبة "المدرسة الفنية الأولى" عند ميلادها عام 1923م ومرحلة شبابها. فحافظوا على موسيقى الكلمة وقافيتها وعلى جزالة اللفظ وعمق معناه... فقدموا العديد من التجارب الفنية المتميزة ذات الألوان المتناغمة المتداخلة والمليئة بكم هائل من الشجن غير العادي.
كان التنافس موجودا بينهم الى جانب الحماس وحب الفن والإخلاص فالتنافس ليس بالشيء المعيب أو الرديئ بل هو ينمي الحياة الفنية ويجعلها تزدهر خاصة والفن عندهم ليس وسيلة للشهرة وجمع المال ولكنه رسالة إنسانية هادفة ووسيلة للتوعية والتثقيف... أما الإخلاص فهو أكبر سر وراء نجاح أي فنان لفنه.
ولد شاعرنا الكبير عمر البنا بام درمان عام 1901م بحي ود البنا.. نشأ وترعرع في بيئة دينية جوها يتآخى مع اللحن الأصيل والصوت الجميل.. فوالده كان عالما وشاعرا ومن اوائل السودانيين الذين تخرجوا في الأزهر إبان العهد التركي.. وفي فترة المهدية بايع الإمام المهدي وأصبح من المقربين إليه.. بدأ عمر البنا دراسته في خلوة الفكي أحمد عمر يحيى. والتحق بمدرسة أم درمان الابتدائية فيما بعد ولم يكملها بالرغم من تفوقه فقد كان أميز تلاميذها وأكثرهم حبا للشعر.
بدأ حياته بحفظ القرآن الكريم فتعلم فيه الحرف والكلمة الراقية والتعبير المتفرد في الدقة والأصالة والسمو ورقة الشعور وجمال الإحساس ونبالة المقصد، عشق الفن رغم معارضة والده الشديدة فقد كان يتمتع بصوت جميل. بدأ مشواره الفني بتقليد من سبقوه محمد ود الفكي وعبد الغفار شيخ الطنابرة وود الجوخ في عشرينات القرن الماضي.
بدأ عمر البنا في كتابة الشعر "الدوبيت" وعمره خمسة عشر عاما. وكان في كلماته سهولة شديدة جدا وبمجرد أن تقرأ تفهم النص الشعري كله. وأشعاره تدخل الوجدان مباشرة لأنها بلا زيف ولا خداع.. تجد نفسك ترددها ببساطة.. وعند ظهور أغنية الحقيبة.. صار يلحن أشعارها ويغنيها بنفسه ليصبح واحدا من أميز المطربين وكان قريبا من جمهوره لأنه يقدم فنا محترما. وبسبب هذا النجاح زادت شعبيته خاصة عند الفتيات... فحقق بذلك اسما فنيا وشهرة وأصبح حالة فنية هائلة.
في ربيع عام 1925م وبينما كان جالسا على ظهر ناقته في طريقه لمنزله سمع صوتا يغني من القلب أغنيته المشهورة التي كان يغنيها الشيخ العدار أمام حوش القمري بحي الركابية بأم درمان.
وداعة الأولياء اللحق
شرها الجانة يتمحق
نزل من على ظهر ناقته وتقدم نحو الشاب وأشاد بصوته وروعة أدائه. وكان هذا الشاب هو عبد الكريم عبد الله مختار "كرومه" واقترح عليه أن يتعاونا معا فنيا.. وافق كرومه بفرح سرور.
بعد اكتشاف عمر البنا موهبة هذا الفنان العبقري.. تبناه ورعاه وصقله فنيا.. فأخذ يتتلمذ على يديه بشكل غير مباشر ذلك مما أبرز صوته ووضعه في الميزان الصحيح... حيث تربى خطوة خطوة حتى استقام.. وبدأ بالشكل الناضج منذ ذلك الوقت مطربا ناجحا يشار إليه بالبنان بعيدا عن الصراعات التي تحدث على الساحة الفنية.
شكلت الصالونات الأدبية النسوية ظاهرة مميزة في العشرينيات من القرن الماضي فقد كانت تعنى بالقضايا السياسية والأدبية والفنية ومن بينها صالون فوز الموردة وصالون فوز الأدبي جنوبي السوق الكبير إذ كان أميزها.. حيث يؤمه صفوة رجال السياسة والأدب.. خليل فرح. محيي الدين جمال أبوسيف. توفيق صالح جبريل. وحسن نجيلة. والأمين علي مدني وآخرون.. مثله مثل صالون الأديبة مي زيادة في القاهرة الذي كان يجتمع فيه عظماء الرجال في الأدب والفن والسياسة مثل طه حسين. العقاد. أحمد شوقي. قاسم أمير وآخرون.
كان في الخرطوم صالون أدبي آخر صاحبته أديبة خرطومية تنتمي إلى أسرة محافظة وتجيد فن الشعر وتنظمه وتتذوقه... ويؤم صالونها كبار شعراء الأغنية وأميز المطربين... إبراهيم العبادي. محمد ود الرضي. أحمد عبد الرحيم العمري. سرور. عمر البنا.
كان كل شاعر تواقا في أن يكون أكثر اقتدارا على الآخرين حتى ينال رضا صاحبة الصالون وينتزع إعجابها عن طريق الشعر المتفوق لأنها كانت تعنى ذلك. ولكن الشيء المؤسف حقا أن بعض هؤلاء الشعراء كانوا ينقلون انعكاسات أشعارهم في الصالون على ساحة المناسبات التي يدعون إليها في حفلات أعراس وختان وغيرها مما سبب حرجا شديدا لأسرة الأدبية.. وهذا ما دعا الأسرة لاتخاذ قرار بأن تتزوج فتاتهم من أحد أقاربها وكان لهم ما أرادوا ومن ثم اتصلوا بصمويل عطية رئيس قسم المخابرات وصديق الأسرة وطلبوا منه نقل العريس إلى محافظة أخرى.. فنقل العريس إلى جنوب البلاد ولما علم شاعرنا الكبير محمد ود الرضي بما حدث لمحبوبتهم نظم قصديته "وداع"
من الأسكلة وحل قام من البلد ولى
دمعي الليلة للثياب بلة
لحن سرور القصيدة بلحن رائع جميل وقدمها فكانت الروعة ولاقت نجاحا منقطع النظير... وبعدها طلب سرور من العبادي أن ينظم له قصيدة فاستجاب العبادي لطلبه وكانت "إلي مسافر"
دهري ضم لي الشقا عني ابعد البعشقا
يوم وداعك لينا كان الثبور
أنت يا الخرطوم كون صبور
بوجودك كان في حبور والله بعدك أصبح قبور
بعد أن غنى سرور بشكل رائع.. احتجت فئة معينة من حسان الخرطوم لأن معاني الأغنية لم تكن ترضيهن وأخذن يتساءلن كيف يصف العبادي الخرطوم بأنها أصبحت قبورا بعد رحيل محبوبتهم وهي المليئة بالحسان عندها توجهن إلى منزل الشاعر أبو صلاح بحلة خوجلي في الخرطوم بحري بصحبة صديقه عباس علي بدري وأبلغنه أن العبادي وسرور قد أساءا إليهن بعد سفر فتاتهم إلى الجنوب وطلبوا منه إعداد أغنية تكون بمثابة رد الاعتبار. كتب أبو صلاح الأغنية وبها بعض الكلمات القاسية التي مست صاحبة الصالون وأرسلها إلى عمر البنا مع شاب يدعى عشاري.. أعجب عمر البنا بكلمات الأغنية وعلى الفور لحنها بلحن موفق وقدمها في حفلاته.. بعد ذلك تناهى إلى سرور خبر الأغنية التي أصبحت معروفة في أم درمان وخارجها بين الناس قام سرور في إحدى المرات مع شعرائه وأصدقائه الذين يقارب عددهم الخمسين وهم يحملون الرتاين المضاءة إلى أحد المنازل في حي الشهداء. حيث كان هناك حفل عرس يغني فيه عمر البناء هذه الأغنية وظن سرور، أن عمر سوف يتخاذل ويمتنع عن غنائها خوفا منه ومن أصدقائه الذين يرافقونه.. ولكن عمر البنا خيب ظن سرور وغنى الأغنية بمزاج واقتدار. فما كان من سرور المتبرم والمغتاظ إلا أن صعد على مسرح الحفل ومعه السنيدة الذين يشاركونه الغناء "الكورس" وغنى أغنياته التي كتبها له شعراء مجموعته في مهاجمة عمر البناء وأبو صلاح وعندها التفت إلى عمر البنا وقال له بكل قبح وازدراء كان بتقدر بعد دا غني "حسب ما ذكره لي عمر البنا" فما كان من عمر البنا إلا أن غادر الحفل مع مناصريه خوفا من صدام يقع بين الفريقين.
في اليوم التالي ذهب عمر البنا إلى أبو صلاح في منزله بالخرطوم بحري وحكى له ما حدث، هو أن سرور جاء إلى الحفل متحمسا للعراك ومعه مجموعة من الشعراء الملتفين حوله ضدهما... حيث غنى سرور في سخرية تامة من كلمات عبيد عبد الرحمن
البد مين البطاولو
مالي بالبنا والبناولو
وكلمة البناولو كان يقصد بها أبو صلاح لأن أبو صلاح هو الذي نظم شعر الأغنية أغنية رد الاعتبار لبنات الخرطوم.
بعد تلك الحادثة اشتد أوار المنافسة والمضاربات الشعرية "1926م" بين الفريقين فريق سرور وفريق عمر البنا فريق سرور يضم العبادي. ود الرضي.. العمري. بطران عبيد عبد الرحمن. أما فريق عمر البنا فيضم أبو صلاح وحده. وكان هدف سرور كما ذكر عمر البناء هو محو صلاح من ساحة الشعر بعد أن تطاول عليهم وعلى محبوبتهم لقد امتنع هؤلاء الشعراء عن تناول الموضوعات المضاءة في أغانيهم الحب وجمال المرأة وانشغلوا بأغاني السب والشتم فيما بينهم وكان مسرح هذه الأحداث هو بيوت الأعراس.
في إحدى المناسبات التقى سرور ومجموعته بعمر البنا ومجموعته وأخذ كل منهم يغني ما لديه من أغان يسخر فيها من المجموعة الأخرى. وكان تقدير تفوق مجموعة على الأخرى هو ما تجده من زغاريد وتصفيق من الحضور فكلما اشتدت الزغاريد والتصفيق كان تفوق مجموعة على الأخرى.
يغني سرور من كلمات أحمد عبد الرحيم العمري
فرع البان الأماته حور
ينحر ليك الحساد نحور
أنا البعوق زملاء البحور
دا نحسه نجم السحور
ويغني عمر البنا من كلمات أبو صلاح
نوم يا طرفي عزولك ساهر
بحسب فوق النجم الزاهر
بنا وعنده مناولا ماهر
وبي اسمك ماني مجاهر
يكفي شعاع القمر الظاهر
عوم يا طرور في البحر الزاخر
وكلمة طرور يقصد بها سرور
ولعل الحادث الذي وقع بحي السيد علي بأم درمان في حفل عبد السلام عبد الله ما زال عالقا بأذهان من عاصروا تلك الفترة.. كان علي الشايقي يغني أغنية عمر البنا المعروفة.
من مناظر الحفلة الجميلة
ليلة ترجع بي ألف عام
كان سرور وعمر البنا بين الحضور في تلك الأمسية التي انتهت والأغنية ما زال صداها يرن في الأسماع بصوت علي الشايقي الشجي الحزين وقد شج رأسه بضربة من عصا كان يحملها المنافس الكبير سرور وانتهى الحال إلى حد بعيد كل البعد عن الطرب والنشوة.
لقد رأى محبو فن الغناء الحقيقيون والمطربون من أصدقاء سرور وعمر البنا في هذه المنافسة ضررا يلحق بطرفي المنافسة إذ لا يجب أن تأخذ أشكال الإساءات الشخصية التي ستعيق المطربين الموهوبين والشعراء من ممارسة الفن الحقيقي.
لقد شعر خليل فرح بشكل جاد بضرر مثل هذه المعارك على مسيرة فن الغناء.. وانطلاقا من رغبته الصادقة في توجيه إبداع الشعراء والمطربين الموهوبين إلى إثراء الساحة الفنية بأعمال مميزة فإنه دعا إلى المصالحة فيما بينهم. تمت المصالحة وباركوها بقراءة الفاتحة. إلا أن صدى المنافسة بقي يتردد بين فترة وأخرى. ففي عام 1927م بدأ المطرب عبد العال بريمة من أبناء الموردة وكان والده يعمل جزارا في سوقها يتغنى بأغنيات المضاربة الأولى بسبب الحساسية المفرطة التي كانت بينه وبين عمر البنا وعندما علم عمر البنا بذلك طلب منه ألا يغني هذه الأغنيات بحجة أنه كان قد اتفق مع سرور على ألا تغنى إلا أن عبد العال لم يعر هذه النصيحة أي انتباه وتابع أداء أغنيات سرور الذي كان خارج المدينة وموجودا في كسلا مما جعل عمر البنا يرد عل تصرفه هذا بأغنياته وبدوره طلب عبد العال من الشاعر سيد عبد العزيز أن يكتب له قصائد تسيئ إلى مجموعة عمر البنا التي انضم إليها الشاعران محمد بشير عتيق وعكير الدامر.. فكان له ما أراد وما إن بدأ في أدائها حتى أخذت المنافسة طابعا عدائيا غريب الشكل وعلى غير التوقع فإن الناس انقطعوا عن حضور هذه المعارك الفنية بعد أن تعبوا من هذه المهاترات التي كانت لا ترضي سوى زهو المطربين وليس أذواق المستمعين. وكان قبل ذلك أن عاتب عمر البنا نفسه طويلا خاصة وصحابة الصالون كانت مكان التقدير والإعجاب والإكبار لديه. فكتب قصيدة اعتذار:
لا تؤاخذني فيما جرى بحكم نفسي ليك بزجره
كان عمر البنا ألمع المطربين في العشرينات واستمر هذا النجاح حتى بداية الثلاثينيات حيث تزوج واعتزل الغناء. وصار يكتب الشعر ويلحنه.. الأمر الذي يؤكد أنه فنان قادر على تقديم كل الألوان الغنائية بأسلوب هادف يرتبط بوجدان الناس، ومن الطريف أن نذكر هنا أن أغنية "هل الهلال والأيام صفن له" التي كتب كلماتها ولحنها عمر البنا عندما أراد تسجيلها على أسطوانة عند شركة مشيان بالقاهرة عام 1936م حدث خلاف بين الصديقين كرومة والأمين برهان بشأنها فكلاهما ادعى الحق في تسجيل الأغنية لأنهما كانا يشجعان فريق الهلال الذي نظمت من أجله الأغنية... وقد حل هذا الخلاف شاعر الأغنية عمر البنا بعد إجراء القرعة بينهما.. كان الحق في التسجيل مع كرومه ومع ذلك لم تنجح الأغنية النجاح المطلوب حتى إن نادي الهلال لم يشتر منها نسخة واحدة مما أغضب شاعرها فوضع أغنية للمريخ وهي بدورها لم تجد النجاح مثل سابقتها وبرأينا أن أغنية "هل الهلال" لم تستدع اهتمام المشترين لغرابة موضوعها خاصة والجماهير كانت تسمع أغاني الحب والهجر والخصام والتم تم، ثم تقدم أغنية تتحدث عن ناد رياضي علما بأن غالبية هذه الجماهير تحب كرة القدم بشكل عام.
لقد عاش شاعرنا الكبير هذه الحياة بكبرياء وشموخ وسطوة انفرد بها عاشها وهو لا يلتفت إلى الصغار والحاقدين والمنافقين والمنتفعين... وكان كل ما يهمه هو حل الجماهير لأنه كان في فنه كبيرا وعظيما ومثقفا ولم يكن مغرورا كما يدعون.
لم يكن يخشى كلمة نقد.. ودائما يرحب بكل نقد صادق وهذه هي طبيعة المبدع الأصيل لأنه واثق من قدراته وإبداعه وله خياله الثر وقلمه المبدع وإلهاماته الفريدة مع ابتكارات المعاني ومفردات الكلام الغنائي الجميل.. هذا وقد أثرى الحياة الفنية بأعمال متميزة نذكر منها: زيدني في هجارني. الأهيف. منعوك أهلك. يا حبيبي أنا عيان. يا عيني وين تلقى المنام. نسائم الليل. يا نعيم الدنيا وغيرها. كما غنى له كبار المطربين كرومه. الأمين برهان. عبد الله الماحي، علي الشايقي، الفاضل أحمد الكاشف. عثمان حسين. عبد العزيز محمد داود. سيد خليفة رمضان حسن وغيرهم.
وفي أوائل أبريل عام 1989م حملت مسجلي وذهبت إليه في منزله بالحارة السادسة في الثورة الذي يبعد بعدة خطوات من منزل مخرج الروائع التلفزيونية عصام الدين الصايغ.. وقبل أن نبدأ في التسجيل طلب مني أن نذهب إلى سوق ود نوباوي "السوق الجديد" لشراء بعض اللوازم. عند وصولنا السوق لاحظت أن معظم التجار كانوا يتركون محلاتهم ويأتون إلى دكان الصادق المغوار الذي كان يجلس أمامه عم عمر للتحية وتبادل الآراء الفنية.. وهذا أن دل على شيء إنما يدل على عمق الصلة بين شاعرنا الكبير والناس.. وفي الوقت ذاته كان معاوية ابن صاحب المحل قد جهز كل ما يلزمه تحركنا بعد ذلك إلى محل جزارة عبد الله كايرو الذي اختار له أحسن اللحوم وأفخرها خاصة وعمر البنا كان محبا للحياة.
عند العودة أدرت المسجل وبدأنا التسجيل ولكن الشيء الذي لفت نظري هو أن عم عمر ذكر تاريخ يوم التسجيل صحيحا والشهر أيضا صحيحا، أما العام فقد ذكر عام 1959م والصحيح عام1989 وهذا يدل على أن الذاكرة قد بدأت تدخل في مرحلة النسيان. وبعد ربع ساعة من التسجيل طلب مني أن أتوقف على أن أعود إليه مرة ثانية.. فعلت. وعند وداعي له ذكر لي أنه أول من غنى في حفل عرس بعد دخلو الكهرباء إلى أم درمان عام1928م... أما متى كان الحفل ومكانه واسم صاحبه وما حدث في تلك الليلة فسوف يخبرني بذلك كله في المرة المقبلة.
سافرت إلى القاهرة للعلاج من الرطوبة التي "نشفت" أصابع يدي وجعلتني غير قادر على الكتابة المستمرة والعزف على البيانو... وعند العودة علمت أن عمر البنا قد غادر الحياة.
لدى باحثي الفولكور مثل يقول: "كل عجوز يموت دون أن تسجل معارفه فكأن مكتبة تحترق" ترى ما أكثر المكتبات النادرة التي تحترق يوميا في السودان؟
رحل عمر البنا "يونيو 1989م" وبرحيله افتقدنا رجلا عظيما جدا ومبدعا لا يمكن أن يجود الزمان بمثله.
رحل عنا عمر البنا جسدا ولكنه سيظل بيننا نغما وشعرا وتظل ألحانه تخاطب القلوب وتمس الوجدان وتسعد الوجدان وتسعد الآذان. ندعو الله أن يرحمه ويجعل الجنة مثواة إلى أن نلقاه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.