كتب هذا المقال ونشر قبل حوالى سبعة أعوام ( ديسمبر 2003)، ضمن سلسلة من المقالات أسميتها « في نقد خطاب السودان الجديد», وقد كان الهدف منها التبصير بالمزالق الكثيرة التي ينطوي عليها ذلك الخطاب. وقد أثبتت الأيام صحة الكثير من النقاط التي نبهّنا اليها خصوصا بعد مشاركة الحركة الشعبية لتحرير السودان في السلطة عقب التوقيع على اتفاق نيفاشا. وقد رأيت اعادة نشره والبلاد مقبلة بعد أشهر قليلة على استفتاء قد يؤدي الى انفصال جنوبها واعلان دولته المستقلة. ..... ( « حرب أيما» هو الاسم الذي أطلقه بعض المنتسبين للحركة الشعبية لتحرير السودان لوصف الصراع الذي نشب في العام 1991 بين أتباع جون قرنق قائد الحركة من جهة ، ومناصري ثلاثة من مساعديه : رياك مشار، ولام أكول، وغوردون كونق من جهة أخرى. تزّوج رياك مشار من عاملة الأغاثة البريطانية « أيما ماك كون» قبل شهرين فقط من انقلابه مع بعض زملائه على جون قرنق. وعلى الرغم من أنّ أيما لم تلعب دورا يذكر في ذلك الانقلاب أو العنف الذي تبعه الاّ أنّ قرنق ألقى عليها باللوم في الشقاق الذي وقع في صفوف الحركة. لقد استمرت حرب الفصائل التي اندلعت في صفوف الحركة الشعبية لعدة سنوات بعد موت أيما, والمرجّح أنّ أسباب الحرب التي أدت الى موت الآلاف من أهل جنوب السودان قد تراوحت بين السياسية والفلسفية والعرقية (القبلية). إنّ صراع الفصائل داخل الحركة الشعبية يعتبر واحدا من عدة صراعات ثانوية أدّت الى اطالة أمد الحرب الأساسية بين الشمال والجنوب لتصبح أطول حروب القارة الأفريقية). هذا جزء من المقدمة التي كتبتها المؤلفة دبرا سكرووجنز لكتابها الموسوم ب (حرب أيما) الذي يتناول صراع الفصائل داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان من خلال تناول أشمل لقضية الحرب في جنوب السودان وتاريخ العلاقات بين الشمال والجنوب. الكاتبة صحفية أمريكية كانت تعمل مراسلة لصحيفة» أتلانتا» وقد قامت بتغطية الحرب في جنوب السودان منذ العام 1988م، وقد ألتقت أيما في شتاء العام 1990 بمدينة الناصر. الكتاب في مجمله محصلة مشاهدات ومحاورات عن الحرب تتوزع بين غابات الجنوب ومدنه، والخرطوم ومعسكرات اللاجئين في شرق السودان وغربه، ولندن ونيروبي وأمريكا. أيما ماك كون هي عاملة الأغاثة البريطانية المولودة في الهند وصاحبة الحياة المضطربة الموّزعة بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا،, والمولعة بالأفارقة منذ أيام نشأتها بمقاطعة « يوركشير» البريطانية، والتي عبرّت دوما عن انجذابها للرجال السود وأعتبرتهم أجمل من الرجال البيض, وأعجبت دوما بابتساماتهم الدافئة وايقاعات موسيقاهم, وما فتئت تردّد أنّ الأفارقة ظلوا برغم معاناتهم ومشاكلهم يستمتعون بالحياة أكثر من الغربيين. ساقتها الأقدار للعمل في جنوب السودان حيث التقت بالدكتور رياك مشار وأحبته وتزوجته قبل شهرين من انشقاقه عن جون قرنق. آمنت بقضيته وأخلصت لها وأحبت أهله النوير الذين بادلوها الود, وأعتبرت نفسها فردا منهم رغما عن بشرتها البيضاء فقررت الانجاب من مشار حتى لا ينظر لها كغريبة . بذلت كل جهدها لخدمة فريق الناصر وقدّمت رياك للإعلام الغربي ولأهلها في بريطانيا ودافعت عنه في مجتمع منظمات الأغاثة بكل ما تملك حتى توفيت في حادث سيارة غامض بنيروبي في نوفمبر من العام 1993م. حول خطاب السودان الجديد : خطاب السودان الجديد الذي تتبناه الحركة الشعبية يستمد قوته الأساسية من نقد السودان الحالي أو القديم بحسب رؤيتهم. سودان اليوم يمثل -في وجهة نظر هذا الخطاب -حقبة تاريخية طويلة من الاستعلاء الثقافي والاجتماعي والهيمنة الاقتصادية للعناصر المنحدرة من الشمال النيلي او التي تمثل الثقافة العربية الأسلامية على العناصر الزنجية أو الأقوام التي لم تختلط بالعرب. يستلهم خطاب السودان الجديد بعض المقولات الاقتصادية التي قال بها الماركسيون الجدد في توصيف التقسيم الاقتصادي الدولي (مقولات المركز والهامش ) ويسقطها على التحليل الثقافي لخارطة السودان مع استلهام بعض المفاهيم التاريخية المرتبطة بأوضاع قوميات السودان المختلفة. والتي تؤدي في المحصلة النهائية الى ضرورة الانقلاب على ذلك السودان القديم وتأسيس السودان الجديد على انقاضه. ويلف الغموض العديد من المفاهيم التي ترتبط بهذا الخطاب إذ يجنح كثيرا للتعميم والخلط واطلاق المقولات دون ضبط علمي. وقد تطرقت في دراسة سابقة لهذا الخطاب عندما ناقشت أطروحة الشارع « عالم عباس» عن الاضطهاد الثقافي في ثقافة المركز والهامش وخلصت من تلك الدراسة الى أنّ هذا الخطاب به الكثير من الثغرات ويفتقر في كثير من جوانبه الى التناول العلمي والموضوعي لقضايا الثقافة والتاريخ والاجتماع والسياسة في السودان. من أكثر الجوانب ضعفاً في هذا الخطاب هو افتقاره للاتساق في اطلاق المقولات واسقاط الأحكام القطعية على ممارسات يعتبرها من المثالب وشواهد القصور في السودان القديم بينما تتم ذات الممارسات من قبل الحركة الشعبية التي تمثل نظريا التجسيد الحي للسودان الجديد. ولا يعفي دعاة السودان الجديد أنهّم حركة ثورية أو تنظيم خارج اطار السلطة لأنّ ممارسة السلطة لا ترتبط بالضرورة بالحكم الكامل، وأنّ أحد مستويات هذه الممارسة هي المناطق التي سيطرت عليها الحركة وقامت فيها مقام الحكومة، والمستوى الثاني هو الممارسة الداخلية للسلطة (داخل الحركة ) وما يرتبط بها من قضايا المحاسبة والشفافية والديمقراطية، وغني عن القول إنّ خطاب السودان الجديد قد تبناه كثير من المثقفين الشماليين وانعكست بعض جوانبه في الانتاج الفكري للعديد منهم وخصوصاً ذلك الذى يتناول موضوع الهوية وما يرتبط به من قضايا تتعلق بالاستعلاء والاضطهاد والتهميش. ينعى خطاب السودان الجديد على السودان القديم أنّه سودان عنصري يهمّش الآخر الذي يختلف معه، وهذا الآخر هو الأفريقي (الزنجي) وبعض القوميات الأخرى في شرق السودان وغربه, ويعتبر ذلك الخطاب أنّ نظام الحكم القائم في السودان اليوم يعتبر بمثابة التكثيف أو المرحلة العليا والأخيرة من مراحل هيمنة العنصر العربي الاسلامي والتي بدأت في فترات تاريخية سابقة ومعالم هذه الهيمنة التي توّجتها الجبهة الاسلامية بنظامها الحالي تشتمل ولا تقتصر علي التالي: (1) استخدام الدين كأداة للكسب السياسي ومبرّر للقمع واستمرار الهيمنة. (2) استرقاق الجنوبيين وارتكاب جرائم الابادة والتطهير العرقي في اطار عملية ظلّت مستمرة منذ فترة طويلة وبتواطؤ مختلف الحكومات الوطنية (الشمالية بحسب ذلك الخطاب ). (3) ارتباط العنصر الذي يهيمن على السلطة بالعالم العربي وهروبه من العالم الأفريقي لعقدة نقص نفسية أدخلته في متاهة القوم السود ذوي الثقافة البيضاء. (4) امتياز السيطرة على السلطة من منطلق الوضع القبلي (العنصري) وليس الكفاءة والمقدرة والجدارة الشخصية. هذه بعض مآخذ خطاب السودان الجديد على السودان القديم, وبالطبع فإنّ هنالك مآخذ أخرى ولكنني سأكتفي بهذه لأغراض المقال وللتدليل على أنّ هذه المآخذ ينضح بها اناء الحركة الشعبية التي تطمع في أن تكون التجسيد الأكمل للبديل الجديد. إنّ كشف نقاط الضعف في خطاب السودان الجديد من خلال كتاب حرب أيما لا يشي بأي نوع من التحيّز الأيدولوجي، فالكاتبة الأمريكية حرصت على نقل الأحداث بأسلوب علمي أقل ما يوصف به أنّه موضوعي. في نقد خطاب السودان الجديد ( مقارنة الأقوال بالأفعال ) : في شهر سبتمبر من العام 1991 ظهر نبي في أرض النوير يدعي «وت نيانق» أو الرجل التمساح, وقد لعب هذا النبي دورا كبيرا في حشد النوير وتوحيد صفوفهم في مواجهة الدينكا, وتصف الكاتبة الطريقة التي تمّت بها التعبئة بالتالي: (وبعد ذلك قامت قوات مشار بهجوم مضاد يقوده النبي» وت نيانق» ومقاتلو الأنانيا (2) وجنود الحركة الشعبية من فصيل الناصر اضافة لرجال المليشيا من قرى النوير،, واستخدم مشار كل الرموز «الدينية» عند النوير لحشد الناس الى جانبه، وقد أقسم النبي التمساح أنّ أي رجل يتخلف عن الانضمام للجيش سيموت من المرض أو ستأكله التماسيح ). قرأت هذه السطور و جالت بخاطري صور حشود شباب الجبهة الاسلامية وهم يستمعون في نشوى لرؤى أنبيائهم عن القرود تهبط من الأشجار لتزيل الألغام، وعن روائح المسك تفوح من القبور, والسحاب يظّلل مسير الجنود, ثم وعيدهم لنا نحن المتخلفين عن الخروج للقتال بالخسران المبين. ثم تخيّلت أنبياء الدينكا على الضفة الأخرى يدعون في أهلهم: من لم يخرج لقتال «كفار النوير» ستبور تجارته ويصبح من النادمين . إنّه ذات سودان الانقاذ في نسخته الجنوبية. ويستمر توظيف الدين للغرض السياسي في النبوءة التي قال بها نبي آخر من أنبياء النوير هو « نقونق دينق «. تقول الكاتبة : ( يقول النوير إنّ نقونق دينق قد قال في نبوءة له إنّه سيظهر رجل يقود النوير ومن أوصافه أنّ ليس له علامات النوير المعروفة على جبينه, ويستخدم يده اليسرى، ثم إنّه يأتي من جهة الغرب, وقد انطبقت كل هذه الأوصاف على رياك مشار الذي يستخدم يده اليسرى, وليس على جبينه علامات النوير المميزة، ثم إنّه جاء من غرب أعالي النيل, وقد بدأ الناس يردّدون أنّه المخلّص الذي تنبأ به النبي نقونق دينق ). وعند الحديث عن الصراع الذي نشب بين النوير والدينكا تتعرّض الكاتبة لوصف ما عرف حينئذ بمذبحة بورالتي قامت بها قوات مشار ضد الدينكا، فتقول : ( لقد أطلق عليها مذبحة بور ولكنها في الحقيقة أكثر من ذلك, انها سلسلة من الهجمات والمذابح, لقد قدرّت منظمة العفو الدولية أنّ أكثر من ألفي شخص قد ماتوا خلال أسبوعين من القتل المتواصل, لقد استولى النوير على الآلاف من قطعان الماشية من الدينكا قبل أن يهرب أكثر من مائة الف منهم في وجه زحف النوير, ثم قررت الأممالمتحدة اخلاء المنطقة وكلفّت أحد موظفيها بالذهاب لتغطية المشهد وقد جاء في وصفه : في كل مكان حولك ترى جثث البشر, والأبقار والأجساد المشنوقة تتدلّى من الأشجار, لقد أجبرنا على قيادة السيارة خارج الطرق حتى نتفادى الجثث، هذه جثث ثلاثة من الأطفال ملتصقين ببعضهم بعد أن ذبحوا, وتلك جثة امرأة اُنتزعت احشاؤها. لقد فعل النوير كل ما يريدونه: اغتصبوا النساء وخطفوهن). لم تقتصر المعركة على النوير والدينكا داخل السودان بل امتدت للخارج, فهذا هو طالب من جنوب السودان يدرس بالقاهرة يتذكر ما جرى بمدرسته : (عندما سمع طلاّب الدينكا والنوير بالمدرسة عن مذبحة بور هاجموا بعضهم البعض داخل حجرة الطعام), وكذلك عندما طارت أخبار المذبحة الى معسكر اللاجئين في كاكوما بكينيا اندلع القتال في كل مكان حتى اضطرت الأممالمتحدة لفصل النوير عن الدينكا وقد قال أحد موظفي الأممالمتحدة : حتى الأطفال حاولوا قتل بعضهم البعض. طالعت هذه الصفحات من كتاب حرب أيما وعجبت للمدافعين عن خطاب السودان الجديد كيف يتوقعون أن تنتقل بنا حركة تستند الى القبيلة والتي هي تشكيلة اجتماعية متخلفة عن الطائفة والحزب السياسي الى سودان جديد ينعم بالحرية والديموقراطية. إنّ هذا الخطاب يعارض سنن التطور في المجتمعات ويتبنى دعوات متقدمة بوسائل متخلفة. إنّ الحركة الشعبية ودعاة السودان الجديد يناقضون أنفسهم عندما يتحدّثون عن الاسترقاق والمذابح والتطهير العرقي الذي تقوم به حكومة الانقاذ، وكيف أنّ ذات الممارسة التي تسمى رقا عندما تمارسها قبائل عربية, يطلق عليها اختطافا عندما تقوم بين قبائل جنوبية, وفي هذا الخصوص قرأت قولا صائبا للدكتور عبد الله علي ابراهيم حول اتفاقية أونليت بين قادة المجتمع المدني والكنيسة للصلح بين النوير والدينكا في فبراير/مارس 1999 حيث يقول: (تعرّضت الاتفاقيّة لأوضاع المختطفين من الجانبين بوضوح كبير فقد قرّر أهل الصلح اعادة البنات المختطفات ممن لم يتزّوجن بخاطفيهن الى أهلهن, وقررت كذلك عودة الصبيان والرجال المحتجزين الى أهلهم، ونشأت بموجب الاتفاقية فرق للتعرّف على المختطفين تفتّش مناطق النوير والدينكا لحصرهم. وحالف الاتفاقية توفيق كبير حيث أعلن مجلس الكنائس السوداني أنّها نجحت في أعادة «148» مختطفاً من النوير والدينكا, وقد لاحظت انّ الاتفاقية لا تسّمي المحتجزين من النوير أو الدينكا « ارّقاء» بل تطلق عليهم لفظة « مختطفين» في حين لا تقبل المعارضة الشمالية هذه اللفظة اذا أطلقت على من يحتجزهم العرب من الجنوبيين، فكيف يكون اختطاف العربي للجنوبي رقا يرجعون بروافده الى نصوص الاسلام في حين يكون احتجاز الديناوي للنويراوي اختطافا؟ هذا لعب على ذقون المصطلح وطريق معبّد الى الجهل وفساد المنطق). ثم تسير الكاتبة خطوة الى الأمام في تبيان السبب الذي أدى الى نشوب الصراع بين النوير والدينكا, وتورد شهادة السيد «صمويل توت بول» المدرّس النويراوي الذي قال : (عندما جاءت الحركة الشعبية الى أرض النوير بدأت في وضع الدينكا فوق النوير, وقد رأى النوير في ذلك غزوا لأرضهم، فعلى الرغم من انّهم أعطوا الحركة الشعبية كل ما يملكونه من محصول وماشية فقد عمل الدينكا على اغتصاب بناتهم وأجبار أبنائهم على التجنيد للقتال بالقوّة). إنّه استعلاء الدينكا وامتيازهم على بقية القبائل بسبب الكثرة والغلبة وهي الحقيقة التي يحاول دعاة السودان الجديد الالتفاف حولها بصبغ الحركة الشعبية بالصبغة القومية برغم الشواهد الماثلة التي تقول بالعكس من ذلك. لقد زعم الدكتور الباقر العفيف في ورقته الموسومة ب (أزمة الهوية في شمال السودان: متاهة قوم سود ذوي ثقافة بيضاء) أنّ الشماليين يعانون من أزمة حقيقية تتجّلى في كون لون بشرتهم سوداء بينما ثقافتهم بيضاء تتمثل العرب ولونهم, ومن ضمن الأدّلة التي ساقها لاثبات فرضيته تلك قوله إنّ الشماليين الذين سافروا الى أوروبا وامريكا فضّلوا الزواج من ذوات البشرة البيضاء ولم يتزّوجوا من صاحبات البشرة السوداء, وهذا قول لا تدعمه أدلّة كافية ولا يجوز تعميمه والخروج بنتيجة تقول إنّ انسان الشمال يعيش في أزمة ومتاهة. أما الشماليون الأوائل الذين تزوجوا من بيضان الأوروبيين فقد كانوا من المتعلمين المبعوثين للدراسة وهم- مع قلّة عددهم- طمحوا في الزواج من نساء لهنّ ذات المستوى التعليمي والثقافي ويشتركن معهم في اهتماماتهم ولم يكن ذلك حال معظم نساء السودان في ذلك الوقت. وبالطبع يمكننا أيضا طرح الأسئلة عن ولع الجنوبيين والعناصر الزنجية الأخرى في السودان بالزواج من البيضان ؟ وهل هم كذلك يعانون من أزمة هوية أم لا ؟ على أنّ كتاب حرب أيما يعرض لقصّة الدكتور مشار الذي تزّوج من عاملة الأغاثة مخالفا تقاليد قبيلته ثم تزّوج مرة أخرى من امرأة امريكية بعد وفاة زوجته أيما وكلاهنّ من صاحبات البشرة البيضاء، بل ذهب في ذلك مذهبا يتوسل بالأسطورة والدين حتى يتقرّب من بنت الفرنجة, وفي ذلك تقول الكاتبة: ( سأل مشار أيما : هل تعرفين شيئا عن النبي نقونق دينق وتقاليد النوير في النبوءات ؟ فأجابته بأنها تعرف القليل، فقال لها: هل سمعت بالنبوءة التي تقول إنّه سيأتي يوم يتزوّج فيه زعيم من النوير لا يحمل علامات النوير على جبينه ويستخدم يده اليسرى من امرأة بيضاء؟ فأجابته انها لا تعلم شيئا عن تلك النبوءة، فأمسك يدها بيده اليسرى وقال لها: أنا ذلك الرجل فهل تقبلين ان تكونين تلك المرأة؟ فقالت له: سأفّكر في هذا الأمر ). ليس ذلك فحسب، بل إنّ جيش النوير الذي حارب الدينكا أطلق على نفسه «فيش مابور» او الجيش الأبيض، وفي ذلك تقول الكاتبة : (وجيش النوير تحت قيادة النبي «وت نيانق» دهنوا أجسادهم بالرماد الأبيض وربطوا ملاءات بيضاء على أكتافهم على أمل ان تحميهم من الرصاص, ثم أطلقوا على أنفسهم اسم الجيش الأبيض وبما يتوافق مع بياض الحراب التي يحملونها). فها نحن أمام شعب يعشق اللون الأبيض للدرجة التي رفعته على كل الألوان فيما توحي به الرموز الحربية: الرماد, الملاءات, والحراب , ولم ينهض أحد دعاة السودان الجديد ليرميهم بتهمة الخروج من جلودهم السوداء, ولست عليما بدلالة اللون الأبيض في ثقافة النوير ولكنني قطعاً لن أزعم أنّهم يعانون أزمة أو محنة. ثم ندلف لنقطة أخرى من النقاط التي يثيرها خطاب السودان الجديد ويضعها في قائمة مآخذه على السودان القديم وهي التواطؤ مع أبناء الجلدة في سبيل السيطرة على السلطة وحرمان الاخرين منها، فها هو الكتاب يصف الأوضاع في الأستوائية بالقول : (انّ سيطرة الحركة الشعبية على الأستوائية قد جعلت من «كول مانيانق» الحاكم المطلق للمنطقة، وفي الحقيقة أنّ الرجل الوحيد الذي كان يحق له مراجعة قرارات كول هو جون قرنق (قريبه) وذلك لأنّ قرنق كان يسيطر بالكامل على الجهات التى تمد الحركة بالأموال وبالتالي كان في استطاعته قطع الامدادات والأسلحة عن كول). والملا كول هذا (على وزن الملا عمر زعيم طالبان) من أبناء الدينكا تويك، وتخرّج في جامعة الخرطوم, كان طاغية زمانه وقد لقبّه المراسلون الصحفيون ب (جزّار الاستوائية) ويقال إنّه هو ملهم أحد الأهازيج العسكرية التي تدرّس للمجندين ليتغنوّا بها عند تخرّجهم من التدريب العسكري, وتبدأ تلك الأهزوجة بالمطلع التالي: « حتى أمّك أطلق عليها رصاصة، أمّا أكبر جرائمه فقد كانت الاشراف على معسكرات تدريب الأطفال القصّر المختطفين من ذويهم، وتشرح الكاتبة كيف أنّه في مارس من العام 1990 وبينما أيما ومعها بعض موظفي الأغاثة يمرّون بالقرب من حطام مباني ارسالية كاثوليكية أيطالية تسمى بالتاكا على بعد ثلاثين ميلا جنوب شرقي كبويتا ولدهشتهم وفزعهم وجدوا أكثر من أربعة آلاف طفل بين سن العاشرة والحادية عشرة في ذلك المكان المهجور الذي أتضّح فيما بعد أنّه أحد معسكرات الحركة الشعبية لتجنيد الأطفال. ما بال دعاة السودان الجديد يغضّون الطرف عن هذه الممارسات ولا يساءلون الحركة الشعبية عنها؟ وقد يسارع البعض ممن أدمن ايجاد الاعذار للحركة الشعبية للقول بأنها كانت في حالة حرب. إذاً لماذا ثار أهل السودان؟ -ونحن منهم- على حكومة الانقاذ عندما كانت تمارس ذات الممارسة بمطاردة الشباب والقبض عليهم في كشّات التجنيد الأجباري بدعوى أنّها في حالة حرب؟ ولماذا ذرف دعاة السودان الجديد من أهل الشمال الدموع وتسابقوا نحو منظمات حقوق الانسان يشتكون جور الحكومة وظلمها عندما وقع حادث العيلفون الذي راح ضحيته عشرات المجندّين غرقا؟ لا تقف تناقضات أهل السودان الجديد عند ذلك الحد بل تدهشنا ببعض غرائبها التي ما فتئت تستنكرها على أهل السودان القديم بزعمهم، ومنها تبشيرنا بأنّ هذا السودان الجديد سيسع الجميع وفق معايير الكفاءة والجدارة الشخصية بعيداً عن توازنات القبيلة أو الطائفة أو الجهة فأنظر قول الكتاب في هذه القصة: (في يوليو من العام 1992 عقدت الحكومة وفصيلا الحركة الشعبية جولة من مفاوضات السلام في مدينة أبوجا النيجيرية, وعلى الرغم من أنّ الجولة لم تحقّق تقدماً يذكر إلاّ أنّ رئيس اركان قرنق وقائد وفده للمفاوضات وليم نون (من قبيلة النوير) قام بخطوة مفاجئة لتوحيد وفدي الحركة الشعبية بغرض الدخول للمفاوضات بوفد واحد، وقد لعب لام أكول دورا أساسيا في اقناع وليم نون باتخاذ هذه الخطوة، ولكن أحد الكتّاب الجنوبيين واسمه نيابا كتب يقول: إنّ لام اكول استغل ضعف وليم نون أمام المال والحوافز المادية، أما جون قرنق فقد استنكر خطوة رئيس أركانه وصرّح للصحف بأنّ وليم نون رجل أمّي متزوج من خمس عشرة امرأة وقد حدثت له ربكة من جرّاء تعقيدات العالم الخارجي الذي لم يتعوّد عليه). إنهّا فضيحة كاملة لأهل السودان الجديد وللمدافعين عنه. ترى هل اكتشف الدكتور قرنق فجأة انّ رئيس أركانه أمىّ لا يقرأ ولا يكتب؟ وكيف ارتقى هذا الأمىّ لهذه المرتبة الرفيعة في الحركة؟ هل هي الموازنات القبلية؟ وهل ثقافة الرشوة هذه تختلف كثيرا عما يمارس الآن في سودان الأنقاذ؟ وكيف تسّنى لرجل مثل وليم نون لا يعرف شيئا عن العالم خارج الغابات التي يعيش فيها أن يفاوض من أجل ايقاف الحرب التي روّعت الملايين؟ خاتمة: وأنا أتأهب لارسال هذا المقال للنشرعلمت أنّ نجمة هوليوود الاسترالية الأصل نيكول كيدمان ستلعب دور أيما في الفيلم الذي سيستند إلى قصة هذا الكتاب. أتمني أن يعكس الفيلم الصورة الحقيقية عن تلك الحقبة من تاريخ الحرب في جنوب السودان، كما يحدوني الأمل في أن يعيد أصحاب دعوة السودان الجديد النظر في تماسك خطابهم وأن يهّونوا على أنفسهم ويهبطوا من سماء التجريد النظري الى أرض الواقع خصوصا وأنّ السودان يستشرف مرحلة جديدة من تاريخه ستكون الحركة الشعبية فيها تنظيما حاكما يمسك بزمام السلطة, والسلطة على مستوى الدولة ستكشف حقيقة هذا الخطاب وتلك الدعوة. (*) كل الاقتباسات الموضوعة بين قوسين هي من كتاب: Emma-s War By: Deborah Scroogins Pantheon Books, New York, 2002. ويمكن الرجوع دون ترتيب للصفحات التالية: -921150, 146, 228, 297, 190, 262, 263,، 199 .. (*) الاقتباس من كتاب الدكتور عبد الله علي ابراهيم: الرق في السودان: نحو أنثروبولوجيا الخبر «ص 75 و76». الشركة العالمية للطباعة والنشر. الخرطوم 2003 (*) ورقة الدكتور الباقر العفيف بذات العنوان. ترجمة الخاتم عدلان. ب/ت