الرصاصة التي جعلت من الرائد طبيب أحمد قاسم، عضو الحركة الإسلامية الناشط وأحد أصحاب الأدوار المهمة في تنفيذ انقلاب 1989م، أول ضحايا الانقلاب، أو الثورة كما ينعتها أهلها، لا تزال هوية تلك الرصاصة حائرة بين أكثر من رواية تحاول تفسير مصرع أحد صناع الثورة رغم أن رفاقه سيطروا على السلطة بمنتهى السهولة، ودون مقاومة تذكر، ما جعل المراقبين الأجانب يطلقون على الانقلاب صفة الأبيض. الرواية الرائجة أكثر من غيرها، هي رواية كلمة السر الشهيرة، التي تؤكد أن الرائد أحمد قاسم لقي مصرعه بنيران صديقة عن طريق الخطأ، تم إطلاقها عليه في إحدى بوابات السلاح الطبي، بعدما تغيرت كلمة السر من (بندقية- كلاشنكوف)، إلى (الوطن- الغالي)، إلى أخرى ثالثة، لم يكن الرائد الذي أوكلت إليه مهمة اعتقال شخصيات بعينها أثناء الانقلاب على علم بها، ما جعل حارس البوابة يطلق عليه النار بعدما فشل قاسم في الإدلاء بكلمة السر الصحيحة. فكرة أن الضحية الأولى في انقلاب 89 سقط عن طريق الخطأ، لا تروق لبعض المقربين من الضابط الراحل وبعض المهتمين بتفاصيل وأسرار ذلك المنعطف المهم في تاريخ البلاد الحديث، ويدفع هؤلاء برواية أخرى مناقضة تماماً للأولي، مفادها أن الرصاصة خرجت من بندقية أحد منسوبي سلاح المهندسين المجاور للسلاح الطبي من باب مقاومة الانقلابيين، بندقية كان صاحبها على علم بأن أحمد قاسم مشارك في الحركة الانقلابية، فعمد إلى إطلاق النار عليه أمام بوابة السلاح الطبي الغربية كما روى د.محمد الأمين صديق الراحل وزميل دراسته وجاره للزميلة (قضايا الساعة) قبل أشهر، وتشير قصة أخرى رائجة بين المهتمين بتلك الحادثة إلى أن الرصاصة التي أطلقها منسوب سلاح المهندسين - الذي كان من آخر الأسلحة التي أيدت الحركة الانقلابية- أصابت الرائد الطبيب وهو يحاول تسلق سور سلاح المهندسين للعبور إلى داخله. وبالاقتراب أكثر من شخصيات كانت اقرب من غيرها إلى تلك الحادثة، تزداد الروايات حول التفاصيل تشابكاً وتناقضاً، فإحدى العاملات بالسلاح الطبي في ذلك الوقت، وزوجة أحد الضباط الكبار الذين ارتبط اسمهم بالإنقاذ في مرحلتها الأولى، كانت مسئولة عن تأمين الاجتماعات في السلاح الطبي، وتقول ل(الرأي العام) أن الرائد لم يمت بنيران صديقة عن طريق الخطأ، وإنما تم إطلاق النار عليه عمداً من سلاح المهندسين. موظفة السلاح الطبي، ومنسقة الاجتماعات السابقة قبل الانقلاب، لم تشهد الحادثة مباشرة، لكنها على علم بكثير من التفاصيل بالطبع، وتتسق فرضيتها مع ما ذهب إليه صديق الراحل محمد الأمين الذي لم يشهد الحادثة بدوره إذ كان خارج السودان، لكنه حصل لاحقاً بطبيعة الحال على معلومات عما حدث. ما حدث يوم الجمعة الثلاثين من يونيو عام 1989م، والملابسات التي سبقت مصرع الرائد أحمد قاسم سردها ل(الرأي العام) أحد أعضاء مجلس ثورة الإنقاذ البارزين، فالراحل كان يتحرك لأداء مهامه صبيحة الانقلاب بين سلاح المهندسين والسلاح الطبي الذين كان يفصل بينهما سلك شائك حينها، وكان العابر على أي من أبواب السلاحين يتلقى صياح الديدبان: (ثاااابت..)..فيجيب العابر: (فلان)، فيقول الديدبان الجزء الأول من سر الليل، وكان: (بندقية)، وعلى العابر أن يجيب: (كلاشنكوف) ليسمح له الديدبان بالعبور، وتغير لاحقاً ليصبح (الوطن- الغالي)، لكن أحمد قاسم، كما يرجح عضو مجلس الثورة راح ضحية تغيير سر الليل، ليس بواسطة منفذي الثورة، بل بواسطة مجموعة قيادات عسكرية مناهضة. الطيب إبراهيم محمد خير، قائد منطقة أمدرمان العسكرية أثناء الانقلاب، أرسل لاعتقال الفريق عبد الرحمن سعيد نائب رئيس الأركان عمليات عشية الثلاثين من يونيو، ولم يكن المايكرويف قد قطع كما يؤكد عضو مجلس الثورة، فتمكنت زوجة الفريق سعيد من الاتصال ببعض معارفها وإبلاغهم بالنبأ الذي لم يلبث أن وصل إلى مسامع قادة سلاح المهندسين ومدرسة المشاة في كرري فاعتصموا بسلاح المهندسين وأبلغوا العساكر بكلمة سر جديدة، في الأثناء كان أحمد قاسم يتحرك ليؤدي مهامه بين الطيب إبراهيم محمد خير في قيادة السلاح الطبي، وبين عمر الأمين كرار الضابط المكلف بمتابعة الانقلاب داخل سلاح المهندسين، ومن البديهي أن الديدبان اعتاد على مرور الرائد قاسم، لكن بعد تلقيه تعليمات جديدة من القادة المناهضين للانقلاب داخل سلاح المهندسين، يرجح عضو مجلس قيادة الثورة أن الديدبان أوقف أحمد قاسم، وطالبه بتقديم كلمة السر الجديدة، وعندما لم يقدم الأخير الإجابة الصحيحة وحاول الدخول، أطلق الديدبان عليه النار. من قتل أحمد قاسم، وفق أقوى الروايات، رواية عضو مجلس قيادة الثورة هو الديدبان، الذي لم تتخذ ضده أي إجراءات بحكم أنه كان يؤدي عمله الاعتيادي، وتؤكد الموظفة بالسلاح الطبي ذات الأمر: أن العسكري الذي أطلق النار لم تتخذ ضده إجراءات ما، ويشرح عضو مجلس الثورة ذلك بالقول: (العسكري قام بواجبه، وتلقى تعليمات من قادته المباشرين بضرب النار ففعل، وحدث هذا أيضاً في بيت فتحي أحمد على القائد العام حينها، فقد أطلق حارسه النار على المجموعة التي مضت لاعتقاله، فاستشهد عسكري من سلاح الإشارة، ولكن لم تتخذ ضده إجراءات معينة، فالجيش لا يحقق في مثل هذه الحوادث التي يطلق فيها عسكري النار تنفيذاً لأوامر قيادته الرسمية). تحديد ذلك الشخص الذي أطلق النار على الرائد، بعد كل هذه السنوات، ربما بات أمراً غاية في الصعوبة، ففي فترة انقلابية كتلك، يرجح أن حوادث من هذا القبيل، يغطيها الحدث الكبير: الانقلاب. تتعدد الروايات حول مصرع الرائد أحمد قاسم، وتتشابه في معظم التفاصيل وتتناقض في أخرى، لكن الثابت أن الرجل الذي أطلق اسمه لاحقاً على أحد مستشفيات العاصمة أصبح أول ضحية تسقط في انقلاب 1989، وأن النار أطلقت عليه في المساحة الفاصلة حينها بين السلاح الطبي وسلاح الإشارة. خبر موجز حملته صحيفة القوات المسلحة قبل أكثر من عشرين عاماً، ورد فيه أن الرائد أحمد قاسم الذي ولد بمدينة بورتسودان العام 1957م، والتحق بالجيش في العام 1983م، أستشهد ومعه عسكري آخر، عن طريق الخطأ...!