يَكْثُر تناولنا للدبلوماسية الأمريكية، ويتوزع اهتمامنا بها تبعاً لتأثيراتها على جماع مصالحنا في دوائر انتمائنا الأساسية؛ الإسلامية والعربية والأفريقية، وما يربطنا من علاقات مع دول العالم الأخرى، التي تتطور سلبا وإيجابا، في تعاطيها مع السياسة الخارجية الأمريكية. ونحن نعلم بأن هذه دبلوماسية واشنطن لا تسير على نسق واحد دائما، ولا تتحرك على خطوط مستقيمة، وتتميز عن الكثير من دول العالم بوجود مؤسسات مختلفة تنشط في صناعتها، ووجود تيارات متعددة داخل المؤسسة الواحد تتجاذب تنفيذها. ورغم أن هذه المؤسسات والتيارات، التي داخلها، لا يلغي أي منها حق الآخر في الفعل، أو التعبير العلني عن فعله، إلا أنها متعايشة ومتلازمة، وفي كل حالة تماس خارجية، يتعزز أثر واحدة، أو يعلو صوت أخرى، أو يبرز دورها أكثر على السطح، وينظر إليها العالم وكأنها المنوط بها قيادة الدبلوماسية الأمريكية. وقد لا يتوقف أمر الاختلاف، أو تبادل الأدوار على المؤسسات والتيارات فحسب، بل نجد في كثير من الأحيان أن الذين يضطلعون بصناعة الدبلوماسية الأمريكية لا ينظرون إلى العالم الخارجي من مناظير مشتركة، أو من خلال رؤية منهجية واحدة. ويتجلى هذا الاختلاف والتباين، في أعلى صوره، عندما يتعلق فعل هذه الدبلوماسية، والتعبير عنها، بتوجهات الإدارة الأمريكية نحو قضية الشرق الأوسط. إذ تتمايز الأصوات تبعا لقرب وبعد إسرائيل من المسألة، وتتقارب وتتباعد المواقف حسب قوة الضغط الذي يمارسه اللوبي الصهيوني في واشنطن لمصحتها، أو ضدها. لقد كانت فترة الرئيس جورج بوش الابن مثالية من حيث برهنتها على إمكانية حدوث تطرف لافت في ترتيبات صناعة السياسة الخارجية الأمريكية، وتغير منابر التعبير عنها، التي كانت قد انتقلت بشكل واضح من وزارة الخارجية إلى وزارة الدفاع «البنتاغون»، خاصة في حالة الخطاب الموجه للعالم عن العراق وأفغانستان، والحشد المحموم للحرب على الإرهاب. فصار المؤتمر الصحفي اليومي للمتحدث الرسمي باسم «البنتاغون» أهم للصحفيين، الذين يهتمون بتوجهات الدبلوماسية الأمريكية، من مؤتمر وزارة الخارجية، التي لم تعد مصدرا موثوقا في الإبلاغ عن نشاط السياسة الخارجية الأمريكية. وعندما جاء الرئيس باراك حسين أوباما للحكم، تحتم عليه إعادة تقييم السياسة الخارجية من خلال النظر إلى جانبين مهمين، يتعلق الأول بمجموعة الأهداف المطلوب تحقيقها من خلال النشاط الدبلوماسي، ومعها ترتيب منظومة صنع القرار في السياسة الخارجية الأمريكية، ويرتبط الجانب الثاني بمجموعة السياسات التي طرحها، أثناء حملته الانتخابية وفي خطاب تنصيبه، ومدى إمكانية تطبيقها على أرض الواقع. ولا شك في في أنه، ومنذ قدومه إلى السلطة، قد بذل جهودا مقدرة من أجل صياغة أساليب جديدة لعمل الدبلوماسية الأمريكية، تبدأ بإعادة تعريف رؤية الولاياتالمتحدة للعالم، وربطها بالسياق التاريخي للقرن الحادي والعشرين، الذي عمد المحافظون الجدد إخراجها بافتعال الفوضى الخلاقة، وإعلان الحرب الشاملة مع كل مختلف عن توجهاتهم في العالم. وإذا أمعنا النظر من خلال دوائر اهتمامنا نجد أن أوباما قد استطاع أن يحيي، في مبتدأ عهده، الكثير من الآمال، وتمكن من القيام بهذا الأمر بنجاح كبير. فقد استطاع صياغة تصور جديد للسياسة الخارجية الأمريكية، يمثل انتقالا شاملاً من عهد جورج بوش، وذلك بالأخذ في الاعتبار العديد من الحقائق الموضوعية، مقروءة على جملة العوامل الجيوبولوتيكية المهمة في العالمين العربي والإسلامي. ومع إسقاطه لمصطلح «الحرب على الإرهاب» الفضفاض، قرر أن الإسلام ليس عدوا،ً وأن الحرب على الإرهاب ليست هي المحدد للدور الأمريكي في العالم. هذا إلى جانب ضرورة أن تظهر الولاياتالمتحدة قدراً من الاحترام للحساسيات التاريخية والثقافية الخاصة بالعالم الإسلامي، علاوة على توسيع علاقاتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية مع الدول الإسلامية. لقد استطاع أوباما أن يظهر بهذا الصنيع حساً إستراتيجياً صائباً، وفهماً متقدماً لكل ما يجري في عالم اليوم، وما يجب على الولاياتالمتحدة، كدولة قائدة، أن تفعله على الساحة الدولية. فاستحق، من أجل كل الوعود بالتغيير، الحصول على جائزة نوبل للسلام. ورغم غرابة الاختيار الذي تواضعت عليه لجنة الجائزة، إلا أن المعترضين لم يكونوا كثر، خاصة وأن أوباما سبق وأن وعد بأن أمريكا سوف تكون وسيطاً عادلاً وفاعلاً حينما تلعب دوراً في التوصل إلى اتفاق سلام دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وأنها ستسعى حثيثا إلى مفاوضات جادة مع إيران حول برنامجها النووي، وغيرها من الموضوعات المهمة ذات الاهتمام المشترك، وأن إستراتيجية قمع التمرد في المناطق، التي تسيطر عليها حركة طالبان، يجب أن تكون جزءاً من جهود سياسية أكبر وأكثر من تركيزها على الجانب العسكري فقط. وبصرف النظر عن كون هذه الأمور لم يحالفه التوفيق في مقابلة مطلوباتها بعد، وقد مرَّ على التعهد بها أكثر من عام، غير أنها تمثل في الحقيقة رؤية إستراتيجية متماسكة للعالم، استطاع أوباما من خلالها أن يقدم تصوراً لمعالجة المعضلات السياسية والدبلوماسية، التي تواجه علاقة أمريكا بالعالمين العربي والإسلامي، وهي ذات المعضلات، التي كانت الولاياتالمتحدة لا تبالي بها لفترة طويلة، خاصة في عهد الرئيس بوش. إلا أن التفاؤل بإمكانية تحقيق كل هذه الوعود سرعان ما تضاءل، وصار الناس الآن يسعون لتفسير ما قيل في الخطاب الدبلوماسي على ضوء ما أفرزته معادلات الواقع غير المواتية في المؤسسة الأمريكية، التي عطلت انجاز ما كان ينبغي انجازه. إن التركيز على دراسة الكيفية، التي ظلت تعمل بها المؤسسة الحاكمة في واشنطن، وإجالة النظر الفاحص في الطريقة استجاب بها الرئيس أوباما لمجموعات الضغط الداخلية والخارجية، يمكن أن تعيننا في تصحيح فهمنا لمفارقة القول للفعل في السياسة الخارجية الأمريكية. وانطلاقا من هذا المعطى، فإن الاجتهاد في التعامل مع مدخل المال السياسي، وجماعات الضغط، واللوبيات، والعلاقات العامة، هي وحدها التي تمكن من التأثير على القرار السياسي الأمريكي، لا الأماني، والانتظار المحبط لما تتمخض عنه وعود أوباما. فكما هو معلوم، فإن الدعم الأمريكي لدولة إسرائيل يتناقض مع المصالح القومية الأمريكية، ولا ينبع من اعتبارات أمريكية إستراتيجية، أو أخلاقية، بل نتاج تغلغل اللوبي الإسرائيلي في مؤسسات صناعة القرار الأمريكية، باستصحاب عمل كل الوسائط المتاحة، والغاية في عرف الدبلوماسية الإسرائيلية تبرر الوسيلة.