إلي اين نسير    منشآت المريخ..!    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    صلوحة: إذا استشهد معاوية فإن السودان سينجب كل يوم ألف معاوية    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    أيهما تُفَضَّل، الأمن أم الحرية؟؟    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    إجتماع بسفارة السودان بالمغرب لدعم المنتخب الوطني في بطولة الأمم الإفريقية    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    شاهد بالصورة.. الطالب "ساتي" يعتذر ويُقبل رأس معلمه ويكسب تعاطف الآلاف    شاهد بالفيديو.. الفنانة ميادة قمر الدين تعبر عن إعجابها بعريس رقص في حفل أحيته على طريقة "العرضة": (العريس الفرفوش سمح.. العرضة سمحة وعواليق نخليها والرجفة نخليها)    شاهد بالفيديو.. أسرة الطالب الذي رقص أمام معلمه تقدم إعتذار رسمي للشعب السوداني: (مراهق ولم نقصر في واجبنا تجاهه وما قام به ساتي غير مرضي)    بالصورة.. مدير أعمال الفنانة إيمان الشريف يرد على أخبار خلافه مع المطربة وإنفصاله عنها    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    بعثه الأهلي شندي تغادر إلى مدينة دنقلا    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



واشنطن بين الخرطوم ودمشق .. قصة سياستين .. بقلم: خالد التيجاني النور
نشر في سودانيل يوم 26 - 02 - 2009


[email protected]
ما بين واشنطن ودمشق ما صنع الحداد, وحالها مع الخرطوم مع اختلاف في الأقدار وبعض التفاصيل لا يختلف كثيراً, وثمة تشابه مثير للانتياه في سيرة العلاقات المتوترة غالباً, والمضطربة في أحسن أحوالها, بين العاصمتين وواشنطن, على الرغم من تباين الأجندة في الحالتين, ومن ذلك وقوعهما تحت ضغوط متواصلة من الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي ظلت تصنف البلدين في لائحة الدول المارقة, والداعمة للإرهاب, والمثيرة للقلاقل في محيطيهما الإقليميين, ودار جدل مماثل حول أنجع السبل للتعاطي مع النظامين من التهديد والعمل على إسقاطهما, أو الاكتفاء الضغط عليهما ل"تغيير سلوكهما", وتنوعت الضغوط من ممارسة سياسة العزل والاحتواء ضدهما, وفرض العقوبات مثل قانون محاسبة سورية وقانون سلام السودان, إلى تخفيض التمثيل الدبلوماسي, وللمفارقة حتى عصا المحكمة الدولية مرفوعة هنا وهناك, وإن اختلف الإدعاء في كل حالة, ولكن النتيجة المرجوة واحدة, وليس سراً أن المحكمة الدولية لقتلة رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري إنما هي مصممة لتطول رؤوس الحكم في دمشق الذين يحملهم أولياء الحريري دمه.
والسؤال الذي يطرح نفسه مع كل هذا التشابه الذي يكاد يصل إلى درجة التطابق في أمر العلاقة الأمريكية مع كل من سورية والسودان, ولكن لماذا لا تتطابق التداعيات والتبعات المترتبة على ذلك في الحالتين؟, فالتعامل الأمريكي مع سورية لم يصل إلى حافة الهاوية كما هو في الحالة السودانية, حيث أن هناك ثمة بوادر تشير إلى أن العلاقات بين واشنطن ودمشق تسير نحو انفراج, أو على أقل تقدير بدأ يعلو فيها صوت الحوار على وتراجع احتمالات المواجهة, في ظل الإدارة الديمقراطية الجديدة, في حين تتجه العلاقة الأمريكية مع الخرطوم إلى صدام محتوم, على خلفية تطورات المحكمة الجنائية الدولية وقرارها الوشيك بقبول طلب المدعي العام توقيف الرئيس عمر البشير, ولا يبدو أن إدارة أوباما تظهر أية دلائل على مد جسور حوار أو تفاهم مع السودان على غرار ما تفعله حالياً مع سورية.
ومناسبة هذه القراءة التحليلية المقارنة بين مجريات العلاقات الأمريكية مع كل من سورية والسودان, الوتيرة المتسارعة اللافتة للأنظار للاتصالات الهادفة لاستئناف الحوار بين واشنطن ودمشق, في وقت لا يحمل الأفق أية مؤشرات على تحركات مماثلة باتجاه الخرطوم, إن لم يكن العكس صحيحاً أي أن العلاقات بين السودان والولايات المتحدة تبدو مرشحة للمزيد من التوتر, فقد تراجعت الاتصالات المباشرة بين الطرفين على الرغم من خطورة التطورات المقبلة وتداعياتها المحتملة مما كان يستدعي قدراً أكبر من التواصل والحوار بين البلدين.
والملاحظة الجديرة بالاهتمام أنه في خلال أقل من شهر على تسلم الرئيس باراك أوباما قيادة البيت الأبيض استقبلت العاصمة السورية أربعة وفود أمريكية, في هجمة دبلوماسية غير مسبوقة أعادت الحرارة الساخنة إلى خطوط التواصل بين دمشق وواشنطن للمرة الأولى منذ العام 2005 حينما سحبت الولايات المتحدة سفيرتها لدى دمشق مارغريت سكوبي على خلفية حادثة اغتيال الحريري, وبدا واضحاً أن الإدارة الديمقراطية مصصمة على البدء فوراً في تجاوز سياسة القطيعة التي انتهجتها إدارة بوش مع سورية, والملاحظة المهمة في الوفود الأمريكية المتتابعة إلى دمشق أنها تشكلت من ممثلين لمجلسي النواب والشيوخ من صناع السياسة الخارجية الأمريكية, مما يشير إلى تناغم بين الإدارة والكونغرس بمجلسيه في انتهاج سياسة جديدة بشأن التقارب مع سورية, وهي دلالة مهمة على أنه لن يكون هناك صداماً مستقبلاً بين الطرفين بهذا الشأن, وكانت آخر تلك الوفود التي قادها رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ جون كيري, وسبقه وفد قاده رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب هوارد بيرمان.
هذه التحركات المكثفة الساعية لاستئناف الحوار مع سورية تثير تساؤلات حول دواعي الاهتمام الأمريكي والحرص على تطبيع العلاقات معها, في حين يحدث العكس تماماً مع السودان.
من المؤكد أنه لا توجد إجابة جاهزة يمكن استدعاؤها ببساطة للرد على هذا التساؤل ببساطة, فالعلاقات الدولية تقوم على شبكة معقدة من الدوافع والمصالح, كما أن الدخول في لعبة الأمم لتحقيق مصالح أي طرف فيها تقتضي توفر قدر هائل من الوعي الاستراتيجي والتكتيكات الذكية والدبلوماسية المحترفة واقتناص مساحة للعب على التناقضات.
وثمة عاملين مهمين يمكن الاستناد إليهما عند مقارنة حالتي العلاقات الأمريكية السورية والأمريكية السودانية, العامل الأول هو الطريقة التي أدارت بها كل من دمشق والخرطوم لأزمتها مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة ومما لا شك فيه أن هناك اختلاف واضح في إدارة كل من البلدين لسياساتهما الخارجية مما جعل النتائج المترتبة على ذلك تختلف في كل حالة, ولا نريد المسارعة إلى الزعم بأن دمشق نجحت في إدارة معركتها مع واشنطن أفضل بكثير مما فعلت الخرطوم مما سيتبين لنا من قراءة وتحليل وقائع ومجريات علاقات البلدين مع الولايات المتحدة في العقدين الماضيين.
ولئن بدا العامل الأول ذاتي, بمعنى أن دوائر الحكم في كل من دمشق والخرطوم قادرة على التحكم فيه حيث يتعلق بالقدرة على صناعة سياسة خارجية فعالة وإدارتها بكفاءة, فإن العامل الثاني موضوعي يتعلق بحقائق الجغرافية السياسية وصحيح أن العاصمتين لم تملكا تحديد موقع البلدين الجغرافي ولكن في الوسع أيضاً استثمار البعد الاستراتيجي للموقع الجغرافي في تقوية الدور السياسي.
وتبعاً لذلك فمن المهم التنبيه هنا إلى أن سورية تتمتع بأهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة أكبر بكثير مما يمثله السودان في الأجندة الاستراتيجية الأمريكية, وهو أمر لا تحكمه اعتبارات اعتباطية, ولكن تفرضه حقائق الجغرافية وضرورات جيوسياسية لا غنى عنها لرعاية المصالح الحيوية الأمريكية المعلومة في منطقة الشرق الأوسط, وهي بالتأكيد أكثر أهمية في الاستراتيجية الأمريكية من القارة الإفريقية حيث تصنف واشنطن جغرافياً وسياسياً السودان ضمن منطقة شرق إفريقيا جنوبي الصحراء, ولكن ذلك لا يعني بالضرورة تقليلاً مطلقاً من أهميتها, ولكنها تأتي في مرحلة متأخرة في سلم الأولويات الأمريكية تبعاً لحجم إسهامها في تحقيق مصالحها الحيوية ولذلك تختلف درجات التعاطي مع الحالتين.
ولذا يبدو مفهوماً أن تولي الإدارة الأمريكية الجديدة هذه الأولوية والأهمية لاستئناف الحوار مع سورية في سياق مراجعة شبه جذرية للسياسة الخارجية الأمريكية لإدارة أوباما التي تستند على منطلقات فكرية وسياسية تعاكس تماماً تلك التي كانت تحرك الإدارة الأمريكية السابقة في عهد الرئيس جورج بوش الإبن, وتسببت في إلحاق أضرار بالغة بصورة الولايات المتحدة ونفوذها ودورها العالمي, وامتدت تأثيراته السالبة إلى داخل الولايات المتحدة في شكل أزمة اقتصادية خانقة, بعد فشلها الذريع في حربها المكلفة ضد الإرهاب وحروبها المتولدة عن ذلك في العراق وأفغانستان, وفشلها في فرض خريطة سياسية لشرق أوسط جديد الذي كانت تسعى إدارة بوش لتحقيقه.
ولكن التحليل المنصف يستلزم القول إن التحول الأمريكي بإتجاه تفعيل الحوار مع دمشق لم يحدث فقط بسبب الفشل الذريع لإدارة بوش وسياسته الخارجية والتبعات التي جرتها على واشنطن, ولكن هذا التحول يحدث لأن الحكم في سورية تمكن من صنع سياسة خارجية ناجحة وفعالة استندت على وعي كبير بالأبعاد الاستراتيجية للحقائق الجيوسياسية وعلى خلق دور فعال لدمشق في هذا الإطار, وأهم من ذلك أثبت قدرة فائقة على إدارة السياسة الخارجية بدرجة عالية من الكفاءة, والحرفية الدبلوماسية, والمرونة الواعية, وحدود ما يمكن أن تقدم من تنازلات وفي أي وقت, ولمن, وفي مقابل ماذا.
ومن يتابع السياسة الخارجية لسورية يستطيع الإمساك بسهولة بذلك البعد الاستراتيجي الحاضر باستمرار في طياتها, فالقيادة السورية تمتعت ببعد نظر مشهود في إدارة صراعها مع إسرائيل, والاحتفاظ بدور فاعل في صراع النفوذ في المنطقة, ولئن أثبتت القاهرة أنه لا حرب بلا مصر, فقد أثبتت دمشق أيضاً أنه لا سلام بلا سورية, وبرعت دمشق بشكل خاص في نسج تحالفاتها في المنطقة, وأتقنت الدبلوماسية السورية استخدام أوراق اللعب المتوفرة لديها, والمفارقة أنه مع ما يبدو من حالة ثبات تكاد تصل إلى حالة الجمود في مواقف السياسة الخارجية لسورية, إلا أنها في الوقت نفسه تتخذ أحياناً مواقف تبدو مخالفةً تماماً لهذا الثبات, وهو أمر يدلل على درجة عاليةً من المرونة يمكن قراءتها في خانة تقديم تنازلات كبرى, لكن سرعان ما يتبين عند التحليل النهائي أنها مجرد استجابة عابرة لتفويت مخاطر أو انحناء للعاصفة, دون أن تفقد ذلك الخيط الرفيع الذي يشهدها للبعد الاستراتيجي للسياسة الخارجية الذي تمثله سورية ليس لنفسها فحسب, بل للموقف الشعبي في المنطقة.
ولعل ذلك مما جعل عاصمة الأمويين سبباً لصداع دائم لواشنطن ومزعزعاً لسياساتها ونفوذها في المنطقة, ومن ذلك أنه مع غروب شمس الاتحاد السوفيتي القطب الآخر في عالم السياسة القطبية الذي كان سائداً حتى نهاية الثمانينات, لم تضع دمشق الوقت في التردد وفي البكاء على لبن حليفها السوفيتي المسكوب فالتحقت بتحالف تحرير الكويت الذي تقوده الولايات المتحدة, وشاركت في حرب الخليج الثانية, ولتجد لنفسها موقعاً متميزاً ودوراً فعالاً وسط معسكر"الاعتدال العربي", ودخلت دمشق في تفاوض غير مباشر مع إسرائيل منذ أواسط التسعينيات ولا يزال مستمراً, دون أن تجد نفسها مضطرة لتقديم تنازلات تمس حقوقها, أو الحقوق الفلسطينية, ولعل أهم خطوة اتخذتها سورية كان انسحابها من لبنان في العام 2005 بعد التداعيات التي جرها اغتيال الحريري, ومع السرعة التي نفذت بها دمشق ذلك الانسحاب حتى بدا أن نجمها في المنطقة قد أفل أخيراً, ولكن سرعان ما أعادت سورية ترتيب أوراق لعبها ليتأكد أنها لا تزال حاضرة بنفوذها ودورها, ونجحت في النجاة من مصير العراق, وقد كاد الدور يقترب منها, لتعود وتصبح الآن محط اهتمام واشنطن من جديد, ليتضح أن تلك المرونة وتلك التنازلات التي قدمتها دمشق لم تكن مجاناً, فقد جنبتها المزالق في أشد الأوقات خطورة على استقرارها, إلا أنها ظلت في كل الأحول ممسكة بذلك الخيط الذي يشدها للبعد الاستراتيجي في سياستها الخارجية.
والأهم من ذلك أن سورية انتزعت الآن اعترافاً من الإدارة الديمقراطية الجديدة بأهمية دورها ليس على صعيد العلاقات الثنائية فحسب, بل بأهمية دورها الإقليمي في لبنان, العراق وفلسطين, وإيران,
فقد أعرب صراحة رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ جون كيري عن اعتقاده عقب محادثاته بالرئيس بشار الأسد بأن هذه لحظة تحول مهمة "ليس في العلاقات الأميركية السورية فقط وإنما في العلاقات في المنطقة"، مشيرا إلى أنه تشجع بالمناقشات "الطويلة والصريحة والمفتوحة" مع الرئيس الأسد. ورغم أنه أكد وجود اختلاف بشأن بعض النقاط فإنه أوضح أن ذالك لن يمنع من إمكانية قيام تعاون حقيقي بشأن عدد من المسائل العاجلة، مضيفا أن الأيام المقبلة ستكشف ماهية هذه الإمكانيات المختلفة.
بالطبع من الخفة الجزم بأن العلاقات الأمريكية السورية ستغدو "سمناً على عسل" بين ليلة وضحاها, ومن المؤكد أن هناك طريق طويل يتوجب قطعه وأمامها مفاوضات دبلوماسية شاقة للوصول إلى تفاهمات, ولكن المهم في هذا الخصوص أن سورية, بفضل إدارتها الكفؤة لسياستها الخارجية, أجبرت الولايات المتحدة, على إدراك أنه ليس بوسعها إلغائها أو شطبها. أو الإطاحة بها. وأن الحوار مع دمشق لا غنى عنه وأن واشنطن لن تتمكن من إملاء سياساتها أو لعب دورها ونفوذها في المنطقة دون تفاهم مع سورية.
وعند النظر لأمر العلاقات الأمريكية السودانية في العشرين عاماً الماضية, يتضح التشابه في سماتها العامة كما أوردنا آنفاً, مع التأكيد على أن هناك اختلاف في الاعتبارات الجيوسياسية, وتفاصيل مهمة عن تلك التي بين دمشق وواشنطن, ولكن ذلك لا يمنع تناول الفرق في إطار طريقة واسلوب إدارة السياسة الخارجية, فعلى النقيض من دمشق لا يكاد حتى المختصون والمشتغلون بالسياسية يعرفون أو يدركون ماهية الأبعاد الاستراتيجية للسياسة الخارجية السودانية, وهل توجد حقاً نظرية للأمن القومي السوداني, وما هي محدداتها وما هي مهدداتها, من يصنعها وكيف, ومن يديرها وبأية كفاءة, ثمة فارق كبير بين الاتصالات والعلاقات الخارجية البيروقراطية للحكومة, وبين استراتيجية السياسة الخارجية, والواقع هناك خلط فاضح في النظر إلى ممارسة الاتصالات الخارجية باعتبارها هي السياسة الخارجية, وعدم وجود ذلك البعد الاستراتيجي المعرف والمحدد هو الذي جعل إدارة السياسة الخارجية خبط عشواء لا تجلب مصلحة, ولا تدفع ضرراً,
ومن الأمثلة الدالة على ذلك أن حكم الإنقاذ يمارس علاقاته الخارجية تارةً باعتبارات أيدولوجية, ويتخذ مواقف تبعاً لذلك تكلفه ثمناً غالياً, ثم لا يلبث أن يترك تلك الاعتبارات الأيدولوجية جانباً , ويحاول أن يبدو منسجماً مع لعبة الأمم فيدير علاقات خارجية تتسم باستعداد لتقديم التنازلات, ولكنها مرونة في غير محلها لأنها تدار بمعزل عن رؤية كلية وبعد استراتيجي, وبغير قليل من الكفاءة, وتبدو مشغولة بدفع ضرر آني أكثر من جلب مصلحة استراتيجية لذلك أصبح ديدنها العودة من الغنيمة بالإياب.
وقصة العلاقات السودانية الأمريكية خير دليل على ذلك, وانتقال الخرطوم من خانة العداء الأيدولوجي لواشنطن في أول عهد الإنقاذ إلى خانة التعاون في مكافحة الإرهاب, الشاغل الأهم لإدارة بوش, لم يكسبها شيئاً, على الرغم من أنها أعطت ولم تستبق شيئأ, ومضت إلى نهاية الشوط, ومنحت الخرطوم الإدارة الأمريكية أكبر انجاز بتوقيع اتفاقية السلام الشامل, ولكن كل الوعود الأمريكية بالتطبيع اتضح أنها أذونات صرف سياسي بلا رصيد, ومن التبسيط المخل ما يتداول في أوساط الحزب الحاكم من أن السبب في ذلك يعود إلى أن واشنطن تستهدف السودان, ورواج نظرية الاستهداف أعمى الأبصار عن إدراك الخلل العميق الناتج من عدم وجود استراتيجية حقيقية للسياسة الخارجية السودانية التي تدار على طريقة رزق اليوم باليوم, والانخراط إلى درجة الغرق في شبر ماء الأزمات المتلاحقة التي تصنعها دائماً بؤس الإدارة السياسية لمشاكل البلاد. والواقع أن من يرد على نظرية الاستهداف ذات الطابع الأيدولوجي هو المؤتمر الوطني نفسه, الذي نزع ذلك الغطاء عن علاقته بالولايات المتحدة وانخرط في التعاطي معها بهدف تطبيع العلاقات معها, ولكنه فشل في إدارته لتلك العلاقات واكتشف بعد فوات الآوان أنه سلم أوراق لعبه لواشنطن مجاناً دون عائد, لتعود وتقلب له
له ظهر المجن.
وغياب البعد الاستراتيجي في السياسة الخارجية السودانية لا تكشفه فقط فشل إدارة العلاقات مع واشنطن, بل كذلك في إدارة العلاقات مع الصين الحليف المفترض للخرطوم, ومما يثير العجب تلك النبرة العاطفية المفرطة التي يتحدث بها المسؤولون عن ملف العلاقات مع بكين وهم يحتفلون بخمسينية العلاقات السودانية الصينية, وحالة العشق العاطفي مما تصح في العلاقات الإنسانية, ولكنها لا تصح على الإطلاق في إدارة العلاقات بين الدول التي تقوم على الحسابات السياسية وتحقيق المصالح الوطنية, وهذا الخطأ الجسيم في إدارة العلاقات الخارجية بمنطلقات عاطفية هو الذي أوصل البلاد لأن يصبح مصيرها مرتهناً للمحكمة الجنائية الدولية, ولا أحد يلوم الصين لأنها ببساطة تعاملت مع الأمر بما يخدم مصالحها القومية, وليس مطلوباً منها أن تفكر أو تقرر أو ترعى المصالح السودانية بالنيابة عن الحكم في الخرطوم الغارق في بحور الحب والعشق من طرف واحد.
فالصين لم تستثمر في النفط بالسودان بدوافع عاطفية بل حققت من ذلك مصالح جمة, والسودان استفاد بالتأكيد من تلك الاستثمارات وحقق مصالح, والتعامل مع هذه العلاقات باعتبارات تحقيق المصالح المشتركة أمر مفهوم ومقبول, ولكن لأن تحقيق الماصلح لا يعرف حدود فليس هناك من سبب لان يرتهن السودان مصالحه لطرف واحد, ببساطة لان الطرف الآخر لا يرتهن مصالحه أيضاً من أجل السودان.
وأخطر ما يؤكد غياب رؤية استراتيجية للسياسة الخارجية السودانية أن الحكم يتعامل مع النفط وكأنه مجرد سلعة تجلب الأموال للخزينة المنهكة, والمعلوم أن النفط ليس سلعة اقتصادية فحسب, بل هو أيضاً سلعة سياسية بامتياز, والدول المدركة لهذه الحقيقة تستخدمها ضمن أهم الأدوات القوية في رسم سياستها الخارجية, وتقوية نفوذها, وجلب مصالح تفوق بكثير مجرد جلب المال. ولكن الخرطوم أضاعت تلك الميزة وأحجمت عن توظيفها في علاقاتها الدولية, ومضت أبعد من ذلك لتقلل من شأن أوراق اللعب المتوفرة لها, وترتهن نفسها لأطراف خارجية بلا حسابات سياسية راشدة,
عن (صحيفة إيلاف) السودانية
الأربعاء 25 فبراير 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.