قبل عدة أشهر كتبت كلمة في حق مدرسة الخرطوم بحري الأميرية الوسطى.. ولقد ذكرت بقدر ما أسعفتني الذاكرة بعض أسماء المعلمين والزملاء الذين زاملناهم وعاصرناهم في تلك المدرسة العريقة.. ورفعة مستوى أساتذتها مما أثر على حياة خريجيها ومستواهم الأكاديمي، ولا أدرى دوافعي ومبتغاي في أن أذكر اسمين من زملائي وأقر بفضلهما على مسار حياتي.. وحقيقة لم يكن اقراري ذلك وليد لحظة.. بل أدركت منذ سنوات تأثير صديقي وزميلي.. الأول فقيدنا الذي اسطر هذه الكلمات بعد وفاته الا هو الدكتور فتحي عبد القادر صالح.. الذي غادر دنيانا قبل شهرين حيث كان يعمل خارج البلاد وأنتهز هذه السانحة لأتقدم بحار عزائي لأبناء دفعتنا منذ المدرسة الأولية.. مدرسة شيخ علي ببحري ثم الأميرية الوسطى فالخرطوم الثانوية العتيقة فجامعة الخرطوم. لقد تلقيت خبر رحيله بأسى وحزن عميق لازماني أياماً وذلك لما كان يتمتع به صديقنا وزميلنا الراحل من أدب جم.. وخلق رفيع.. ومودة خالصة و علم كثير ونبوغ مبكر منذ المرحلة الأولية.. أذكر فقيدنا فتحي عبد القادر صالح في العام 9491م حين تزاملنا.. أذكره بجسمه النحيل ونظارته السميكة وهدوئه.. وإبتسامته الوضيئة.. أذكره عندما كان يأخذنا في جماعة إلى منزلهم بحي الأملاك بعد إنتهاء اليوم الدراسي ويسقينا جميعاً من الماء البارد ونتهامس في صفاء.. أن لديهم ثلاجة ثم يوزع علينا بعض المجلات بعد أن يكون قد أطلع عليها.. إمتد عطاء فقيدنا بتسليفنا لكتبه في المرحلة الوسطى والثانوية وكنا نلاحظ شغفه بالقراءة المتواصلة الجادة منذ تلك السن المبكرة ، كان قارئاً نهماً مع ذكاء و قاد.. ومقدرات عالية مكنته من الخطابة، ولديه افكار واضحة الرؤية متمكناً من اجادة اللغتين العربية والانجليزية. برغم ان فقيدنا عند دخولنا جامعة الخرطوم كان في الناحية الشرقية من الجامعة بكلية الرياضيات إلا أنني لا انسى زياراته لي بكلية الاقتصاد من الناحية الغربية من الجامعة.. وإهتمامه وحرصه على صداقتنا وزمالتنا التي امتدت لمدة ستة عشر عاماً وفي كل المراحل الدراسية، أذكر في المرحلة الثانوية إنضمام فقيدنا لحركة الأخوان المسلمين ولقد كان لمقدراته الكبرى في الخطابة.. وأدبه في التخاطب مع الآخرين إضافة حقيقية لما كان يعتقد فيه عن مبدأ.. وعن عقيدة.. ثم في جامعة الخرطوم أصبح فقيدنا.. مولعاً ومهتماً بقراءات متعددة.. ولمذاهب فكرية ومذاهب عقائدية كثيرة. كان رجلاً صاحب فكر ومبادئ طيلة حياته. أذكر آخر لقاء لي بفقيدنا في ابريل 5691م عندما حضر إلىَّ بداخلية النيل الأزرق مهنئاً بتخرجي ولمعرفتي الطويلة به احسست بأنه يود ان يقول لي شيئاً.. كان متردداً وعندما استجليت الأمر ذكر لي أنه كان يود ترك الجامعة منذ فترة ولكن ها هي الجامعة تتخذ له القرار، ولم اصدق أن صديقي وزميلي فتحي عبد القادر صالح ذاك الفتى العبقري يترك الجامعة بعد أربع سنوات مكتفياً بالشهادة الوسطى، وعلمت فيما بعد بأنه عمل لفترة استاذاً بمدرسة حنتوب الثانوية ثم سافر خارج البلاد واحرز درجات أكاديمية عليا في زمن قياسي.. وهو أمر غير مستغرب عنه.. يشهد بذلك كل من زامل فقيدنا في كل المراحل الدراسية. فهو أكاديمي شامل وانسان رائع يصعب نسيانه.. أكتب هذه الكلمات ودافعي أن اقول كلمة حق في فقيدنا ،، وهذا اقل ما يمكن ان يقال عنه.. شاهداً على افضاله علىّ فقد أثر هذا الانسان علىّ كثيراً وكان قدوة.. ومثالاً ودافعاً ايجابياً في مسيرة حياتي منذ الطفولة.. وبموته أفقد وللأبد جزء من روحي.. وحياتي وذكرياتي.. وفي الختام الحزن يغمرني لفقده اود ان اتقدم بعزائي ودعواتي الصالحة له.. وأتقدم بالعزاء لأسرته وأهله وأبناء دفعته ولكل عارفي فضله في كل مكان.. راجياً من الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته ويتقبله في جناته العليا وإنا لله وإنا إليه راجعون.. المنشية- الخرطوم