مثل النكات السياسية الرائجة، يروي كثيرون عن قيادات سودانية من الراحلين والمقيمين ميلهم إلى التعامل مع اختلاف الآراء والمواقف السياسية على أنها أمور شخصية وليست حزبية او مؤسسية، وميلهم لشخصنتها والتعامل على أساسها، و(شخصنة القضايا العامة) مصطلح ورد ويرد كثيرا في مساجلات السياسيين السودانيين، خاصة بين الشريكين، فقد ساق المؤتمر الوطني الإتهام للحركة الشعبية مرارا بشخصنة القضايا، لا سيما إثر الخلافات حول قوانين التحول الديمقراطي تحت قبة البرلمان، وما صاحبها وتلاها من احداث ومواقف. .... مجتمع شخصاني هذه الشخصنة، ألقت بظلالها على قضية السلام في عمومه، وسلام دارفور بشكل أخص، فقد حذر د. غازي صلاح الدين مستشار رئيس الجمهورية، مسؤول ملف دارفور، مؤخرا مما أسماه (شخصنة السلام)، بربط وثيقة السلام النهائي لأزمة دارفور بأسماء محددة من قادة الحركات المسلحة، ودعا لعدم إعطاء أهمية أكبر من اللازم للأشخاص، ونبه في لقائه مع الوسيط المشترك جبريل باسولي إلى ضرورة ألا يكون السلام النهائي مع حركة العدل والمساوة بل مع أهل دارفور. ويعتقد كثيرون أن هذه الشخصنة لم تقف عند قضية معينة أو ظروف محددة اذ يتم اختزال الكثير من القضايا في شخص واحد، وكثيرا ما يتعامل السودانيون مع الحكومات والدول والمنظمات والهيئات والحركات وغيرها على أساس انها هذا الشخص او ذاك.. وهناك مواقف كثيرة في المؤسسات الرسمية والأهلية، توضح أن كل المكون السوداني من اعلاه إلى أدناه يتعاطى الشخصنة، فتتنزل بدءاً من الخطاب العام إلى جلسات الحوار الجانبية، ويرجع المحلل والسياسي د. الطيب زين العابدين، ذلك إلى أنه وفي مجتمع مثل المجتمع السوداني يصعب تجاوز الشخصنة لانه مجتمع متخلف إلى حد ما وليس مجتمع مؤسسات، ويضيف أن الاحزاب العريقة مرتبطة بأشخاص، وحتى المسؤولين بالدولة تجد بعضهم أقدر من غيرهم على جلب تمويل لوزاراتهم، وكذلك الخدمة المدنية المفترض فيها أن تكون مؤسسية لحد كبير، تجد فيها الشخصنة بسبب قوة الأشخاص، وبالتالي فالشخصنة ظاهرة للمجتمعات المتخلفة البعيدة عن المؤسسية. مقاربة إذاً، وقياساً على الرأي الجازم بتجذر الشخصنة في السودانيين، فإن الحديث عن اختزال عملية السلام برمتها في أشخاص لا يبدو غريباً ولا مستبعداً، لكن ذلك ليس امراً ممكناً في ظل تعنت هؤلاء وعدم قبولهم بالإنضمام لمنبر السلام، والحكومة اعلنت انها لن تنتظرهم ولن تشخصن السلام، وقد أكد د. غازي أنه ليس هناك شرط يربط بين عودة خليل أو أي شخص آخر اختار طريق السلاح إلى دارفور والذهاب إلى التفاوض، ونبه إلى أن الذي يلتزم بالتفاوض يجب أن يلتزم به دون شروط، وأن للوسيط الحرية في الإتصال بمن حددتهم مبادرة الدوحة، ولكن دون أن يشخصن عملية السلام.. والأمر كذلك فإن السبيل هو إيجاد مقاربة بين هذا وذاك، لكن فكرة الإبتعاد عن الشخصنة في قضة دارفور يبدو طلبا بعيد المنال، كما يقول د. الطيب زين العابدين، الذي يضيف أن الحديث عن عدم شخصنة السلام صحيح إلى حد كبير، لكن هؤلاء الأشخاص لديهم تبعية، ولا يمكن القول إن عبد الواحد مثلا يمثل نفسه فقط فهو يمثل قبيلة أو رمزاً لشباب متمردين منها، وهكذا خليل وحتى التيجاني السيسي مع أنه رئيس لتحالف، وعليه فإن إشراك هؤلاء الأشخاص الذين لديهم اتباع يكون مهما، ولا يعني ذلك توقف السلام تماما في انتظارهم. المزاجية وينضم القيادي بحركة تحرير السودان سيف الدين هارون إلى هذا الرأي، ويرى هارون أن تفاقم قضية دارفور من البداية نتج عن المزاجية الشخصية والفردية سواء من قبل الحكومة او من الآخرين، ويقول إنهم كحركة كانوا يتعاملون كتنظيم وليس كأفراد لكن الحركات الآن أصبحت تتعامل كأفراد، ما ادى لتشعب القضية. ويستطرد بأن الذين لم ينضموا للسلام اختاروا بصورة فردية ألا ينضموا للسلام واختاروا الحرب لكنهم لم يستطيعوا المضي فيها، وكل ذلك يرجعه إلى عدم التعامل مع قضية دارفور بفهم متكامل، وعدم التعامل مع اتفاق أبوجا بشكل جاد بعد توقيعه مما نتج عنه الكثير من الإشكالات والحروب. ومع الإيمان بضرورة عدم تأثير هذه الشخصنة على سلام دارفور المنتظر إلا ان الأطراف لن تقبل بهذا الإقصاء، ويرى هارون أنه من الصعب تجاوز الشخصيات، ويقول إن الحديث عن ذلك بابعاد أمثال خليل وعبد الواحد صعب التحقيق، لأن كل من هو موجود في دارفور يرى أنه معني بالقضية وطالما هناك منبر بالدوحة فإنه سيأتي ويشارك. التراجع العسكري ويفسر البعض تجاوز الإستراتيجية الحكومية للأشخاص، خاصة عبد الواحد وخليل وبقية الرافضين، مبعثه تراجع القوة السياسية والميدانية العسكرية لهؤلاء، مما يمكن من تجاوزهم والتعاطي مع الأغلبية الصامتة من أهل دارفور كما تسمى، لكن د. الطيب زين العابدين يؤكد ان الحكومة لا تستطيع تجاوز فصائل تحمل السلاح ولديها تأييد (غير معروف الحجم) وأحدثت إضطرابا في كل الإقليم، وبالتالي تجاوزها لا يصنع سلاما، وعلى الحكومة أن تصبر وتستجيب لبعض المطالب المعقولة، خاصة وإن الإستراتيجية قالت إن سلام دارفور يجب ان يتم قبل الإستفتاء، لكنها لم تبدأ حتى الآن وهناك عناصر كثيرة لم تطبق. ومن جانبه يقول سيف الدين هارون، إنه لا يمكن تجاوز شخص مثل عبد الواحد كرمز وصاحب دور، والذي يستطيع التأثير في قوى كبيرة في دارفور وهي ليست قوى مسلحة وإنما تمثل مجموعة إجتماعية يصعب تجاوزها، ويضيف أن ما قاد لبعض الأحداث خاصة في كلمة مبعثه تجاوز عبد الواحد والتعامل مع قوى غير ناشطة وأشخاص دون وزن وتأثير، والتعامل وفق الملف الأمني والقوى العسكرية، ويستطرد بأن كثيرين يؤمنون بعبد الواحد، ويقرر أن فكرة تجاوز هؤلاء ليست عملية. تجربة أبوجا التجارب السابقة وابوجا بالذات، برهنت على أن تجاوز البعض يمكن ان يقود إلى تحقيق سلام ، لكن تبقى الإشكالية في أن تجاوز هؤلاء الأشخاص لا يجعل السلام مكتملا، فقد ذكر د. غازي ذلك بقوله: رأينا أن تجربة أبوجا وقعت بين طرفين ولم تؤد إلى النتائج المرجوة منها، واستطرد: ينبغي أن نتعلم من التجربة ولا نربط السلام بشخص معين. ويقول د. الطيب زين العابدين في ذلك، إن حركة مناوي كانت في فترة ما أكبر فصيل في دارفور وعندما عقد معه السلام ظن الجميع أن المشكلة ستحل، وحتى الدول الكبرى، وهو ما ثبت خطأه. ويضيف أن القضية بحاجة إلى جمع بأكثر من وسيلة، وإشراك أكبر عدد من الفصائل، وأن تكون مفتوحة قابلة للتطوير، فعيب أبوجا أنها توقفت ولم تتطور، وان الحكومة لو بدأت السلام مع بعض الفصائل التي تقبل فإنه يكون قابلا للتطوير وإشراك الآخرين. وعليه فإن المطالبة بعدم شخصنة السلام بصورة مطلقة غير مقبول. وكيفما كان الأمر، فيبدو أن مسألة شخصنة القضايا لن تبارح أضابير السياسة السودانية ما لم يتوافر الوعي الكافي لدى الأطراف كافة بأهمية التعاطي مع القضايا وفق منظور المصلحة العامة وفي الإطار الكلي للمعالجات، ويبدو ان سلام دارفور بالذات سيبقى مختزلاً في أسماء بعينها حتى بعد تنزيل استراتيجية الحكومة على الأرض.