اقتطاع جزء من دولة عن جسدها الأكبر ولو كان باستفتاء تُشْرِف عليه الأمم المتّحدة ليس هو استقلال، بل هو إعادة رسم لخريطة الدولة أو إعادة بناء لهيكل الوطن! الاستقلال كلمة لا تدل إلاّ على نتيجة تصارع بين إثنين: الاستعمار والتحرير... فعندما يجثم الاستعمار بجيشه ونظامه فهذا هو الاحتلال، وحين ينتصر التحرير بالمقاومة العسكريّة والمقاومة السياسيّة فيخرج المحتل فهذا هو الاستقلال... الاستقلال هو عمليّات المقاومة لإجلاء المُسْتَعمِر! إذا رفضَ جنوب السودان العيش الواحد والعيش المُشْتَرَك مع بقيّة السودان فإنّ الجنوب يكون قد اختارَ العيش المنفرد، وهذا فى كل الدنيا لا اسمَ له غير الإنفصال... في دولة السودان الواحدة لم تتوفر معادلة الاستعمار والتحرير بين شماله وجنوبه... اللهمّ إلا إذا كان مرضاً نفسياً أحسه جنوب السودان ولم تكن لديه الشجاعة لتقديم نفسه للعيادة النفسيّة السياسيّة! لا يليق من العناصر الجنوبيّة التي تعمل للإنفصال أنْ تورّثَ الأجيال القادمة مغالطات لا محل لها إلاّ في عقول ضيّقة لم تعرف كيف أقيمت الدول الوطنية في القارة الأفريقية... لذلك يهمنا أنْ يدرك الجيل القادم من الجنوبيين أن أجيالهم القديمة فشلت في امتحان العيش المشترك فاختاروا الإنعزال وليس الاستقلال! السودان كله وبحدوده المعترف بها لم يختر نفسه وحدوده فهما من صُنع حركة الاستعمار... وحركة التحرير السوداني لم تفعلْ شيئاً غير إضفاء عبقرية الاجتماع السوداني داخل حدودٍ رسمها لهم الاستعمار... لم يمنح الاستعمار البريطاني بحاكمه العام ومجلس عمومه حق تقرير المصير وقتذاك للجنوب وكان قادراً على ذلك، ولكنّ السياسة السودانيّة الواقعيّة هي التي تحمّلت المسؤولية التاريخيّة ومنحت بعضاً من أهله حق تقرير مصيرهم! حركة المهدي التحريريّة هي التي نفّذت لدولة السودان الاستقلال التجريبي (الاستقلال صفر)... وإنجلاء الإستعمار البريطاني عن السودان كان هو الاستقلال الأول... واتفاقية نيفاشا هي الاستقلال الثاني لأنّ السودانيين منحوا أنفسهم فيها فرصة تصحيح الأخطاء البريطانيّة التي تركوها وراءهم... وإذا أصرّ الإنعزاليّون بأنّ تقرير المصير سيأتي للجنوب بالإستقلال، فلن نتردد في أن نحسب ذلك استقلالاً لنا أيضاً... سنحتفل بالإستقلال الثالث!!